التوقيت الإثنين، 06 مايو 2024
التوقيت 03:29 م , بتوقيت القاهرة

لقطات أدبية لم ينقطع أثرها (2)

أستكمل اليوم ما بدأته في المقال السابق من عرض لفقرات أدبية من بين صفحات الرواية المصرية في القرن العشرين، نستشف من خلالها بعض ما تعرض له عدد من مشاهير الأدب المصريين، من أحداث أو إشكاليات سياسية واجتماعية، وكيف رصدوا زمانهم وعبروا عنه بحسب رؤيتهم الخاصة، وأيضا ملاحظة لأي مدى سارت الأحداث بنا مفترقة عن زمن تسطير تلك الروايات.


وأبدأ من يحيى حقي، ذلك المصري للنخاع الممتزجة أصوله بدماء تركية مؤكدة.. الدبلوماسي الرحال الذي لم يبرح جذوره المحافِظة ولا تنازل عن شرقيته قط.. من ارتبط  بزوجته عن طريق الصدفة والمفارقة، فذهب ليرى فتاة بغرض الزواج غير التي رُشّحت له، فأعجبته وتشكَّل بينهما القبول، حتى وصف ما حدث بكونه أجمل أخطاء حياته.


وكان والد زوجته هو "عبد اللطيف بك سعودي" عضو مجلس النواب المصري، الذي كان بحسب وصف "حقي" له: سجلا للأسرار السياسية والبرلمانية وخبايا التاريخ المصري الحديث، والذي كان أيضا بحكم عمله محاميا في المحاكم المختلطة على اطلاع بأسرار القضاة الأجانب بمصر.


وكان هذا الرجل لا يدون حكاياه أبدا، وكان في الوقت ذاته نسّابا متمكنا يحفظ جذور وتشعب أنساب العائلات المسلمة والقبطية في مصر، لكن "حقي" يذكر أنه عثر على رسالة له عن "تاريخ الشحاذين في مصر" لكنه للخسارة فقد أوراقها فيما بعد وفقد أثرها!


وحقي العامل في السلك الدبلوماسي، يبدو أنه قد اكتسب من حماه السياسي الأريب بصيرته السياسية، جعلت منه صاحب رؤية شاملة لتفاعلات السياسة في ذلك العصر الذي يوصف دائما بكونه العصر الذهبي للسياسة قبل ثورة يوليو 52 حتى أن الأديب قد لخص مشهد التورط في السياسة عبر الصدفة ومعايشة الحدث الذي هو في حقيقته يحمل الكثير من زيف وادعاءات زعماء الأحزاب السياسية، ووصف بجرأة كيفية انجذاب المتحمسين والضاجرين للمشاركة في الأحداث، ومدى أثر تلك التجربة السريعة في حياة شاهدها وبطلها، وما اعتراه حينها من انفعالات نفسية، وانعكاس أثر الحدث على حياة البطل، ثم ختام الحدث بدعوة عاجلة بالعودة للبلدة من الأب الريفي.


يروي حقي: 
"..... خرج الشاب ذات صباح من داره ليذهب إلى المدرسة فإذا دروب العاصمة تموج بحشد غفير من المتظاهرين، هم أخلاط وأشتات جمعهم الهتاف بسقوط الحكومة. لا أذكر الحادثة التي أثارتهم، فما أكثر ما سمعناه من أنباء هذه المظاهرات حتى ألفناها لتشابهها وعقمها وأصبحنا لا نأبه بها. أعتقد أن الحادثة ترجع إلى تناحر حزبي على مقاعد الحكم، ونزاع بين زعيمين هو في أغلب الأمر تنافر بين مزاجين لا يرقى إلى مرتبة الخلاف بين رأيين، واستطاع الحزب المعارض أن يلبس أطماعه في الحكم ثوب الدفاع عن حقوق الشعب وحريته، وانساق بعض الناس وراءه، بعضهم تطوعا، فما أسرع أهلنا إلى الحماس والهياج، وبعضهم طمعا في تحقيق مصالحهم الذاتية إذا تغيرت الحكومة، وشعبا- كبقية الشعوب - لا يخلو من المنافقين، ولعل كثرة المتظاهرين لا يريدون نصرة الحزب المعارض بقدر ما يريدون الجهر بضيقهم من متاعب العيش، لا يستطيعون إلقاء مسؤوليتها إلا على رأس الحكومة، أيا كانت.


وكان صاحبنا لا يحب السياسة ولا يناصر حزبا على حزب، ويكره الخصام والجدال، هدفه الأوحد أن ينهي دراسته. وأخذ يتطلع إلى وجوه المتظاهرين بشيء من الرثاء والسخرية والفكاهة، هذا العامل الفقير الممزق الجلباب إنما يلهو ويعبث حين يقلد قائد المظاهرة ويردد وراءه هتافاته المسجوعة، وهذا الأفندي يتصبب عرقا وسط الزحام، لمَ وفيمَ يزج نفسه فى هذا المأزق؟


وانصرف عن المظاهرة يقول:
- هي حكومة تريد أن تتشبث بمقاعد الحكم ما أمكنها، وجماعة من العاطلين المتهوسين لا ينتبهون إلى أنهم ألعوبة فى يد ساسة من المكرة الدهاة. إنه ليس مثلهم غرا تنطلى عليه حماسة قائد المظاهرة، إن قلبه يحدثه بأن الرجل مأجور، وهذا الخطيب المفوه له صورة الذئاب، يهدر صوته كالرعد دفاعاً عن الوطن والشعب المسكين، إنما هو جاسوس يتقاضى من العدو مرتبا كبيرا كل شهر.


ووصل إلى المدرسة فراعه أنها محاطة بعدد كبير من الجند، على رؤوسهم خوذ كريهة اللون، يحمل بعضهم البنادق، وبعضهم العصي الغلاظ . ورأى زملاءه الطلبة قد لاذوا بسطح المدرسة اتخذوه حصنا يقذفون منه على الجنود حطام أثاث مدرستهم- يا للحماقة- يتلفون أموالهم بأيديهم!


زجره جندي وأغلظ له، فابتعد عنه، ووقف بجانب الباب حائرا يقول لنفسه "أين أذهب؟ هذا يوم آخر من أيام الدراسة يضيع هباء".


وهم أن ينصرف، فإذا بحجر يصيب رأس قائد الجند وإذا بهم يندفعون جميعا نحو الباب فيجد نفسه محمولا وسط التيار يصعد معهم سلم المدرسة ولكنه تخلف عنهم في الطابق الأول ومضوا هم إلى السطح.


وسار في الدهليز متجها إلى فصله ليرى مابقي فيه من زملائه ومر أمام المرحاض فرأى رفيقا له مختبئا وراء بابه هو صبى نحيل ضعيف مسالم يكره العنف والضجة، فقال له "لماذا تختبئ هنا؟ الموقعة دائرة على السطح فتعالى معي إلى الفصل". هو الذي جره وأخرجه والصبي يقول له " تحسن صنعا أنت لو اختبأت مثلي في المرحاض".


لم يكد يسير بزميله خطوتين حتى أطبقت عليهما زمرة من الجند ورأى واحدا منهم يرفع عصاه الغليظة ليهوى بها. لم ينس إلى الآن وجه هذا الجندى ينطق بالقسوة البالغة والكره الشديد، هو وحش كاسر يلذ له أن يلغ فى الدم، وقبل أن يقول له الشاب" تريث! لا شأن لنا بما حدث! انتظر! اسألنا سؤالا واحدا نجيبك بما يريحك!" هوت العصا الغليظة بقوة على رأس زميله المسكين، والضعيف هو الذي يتلقى الضربات حتى غير المقصودة منها! فوقع على الأرض وتفجرت الدماء من جروحه.


انكفأ عليه لحظة ثم قام هائجا وأمسك بتلابيب الجندي ولكن بقية الجند ضربوه بكعوب بنادقهم وجروه إلى سيارة السجن وقذفوه فيها مع نفر من زملائه. وفي اليوم التالى علم أن رفيقه المسكين لم يستفق من ضرباته حتى مات بعد ساعات قليلة، وأن الحكومة أمرت بدفن جثمانه سرا خوفا من أن تقام له جنازة تنقلب مظاهرة أخرى .


إذا ذكر إلى اليوم وجه الجندى فإنه نسى السجن وليلته فيه نسيانا تاما، إذ كان ذهنه مشغولا بمسألة تهز كيانه هزا عنيفا.


كان بالأمس لا شأن له بالمظاهرة وأسبابها ولكنه اليوم يدرك معنى الظلم بل يعتقد- وهنا الخطر- أن هناك من المظالم مالا يمكن دفعه إلا بمثل قسوتها. إنه لا يريد أن يناصر حزبا، أو يدافع عن رأى ولكن لا مفر له من أن يثور فى وجه الظلم أيا كان، يا للهول والخسة والجبن! يقتل صبى غرير بلا جريرة على يد واحد من مواطنيه لماذا؟ من قال بهذا؟ وكيف يمكن الاقتصاص من هذا الجندى وهو آخر الأمر حلقة فى سلسلة طويلة لا يعلم أولها من آخرها.


إن فعلة الجندى دليل على أن هناك خللا فى جهاز الحكومة بل يدل- يا للنكبة الكبرى- على أن هناك خللا فى كيان الأمة كلها... وما كان هذا الجندى يقدم على فعلته لولا إحساسه بأن نفوس رؤسائه أشد استهانة منه بكرامة الشعب، وأنه عبر بضربته عن خبايا نفوسهم .


وأنف صاحبنا أن يعيش بلا كرامة، مهدور الإنسانية حقيرا ذليلا.. ولما عاد للدراسة كان أكثر الطلبة مشاغبة وهياجا، لم يترك مظاهرة واحدة دون أن يسير فى مقدمتها يحطم الترام ومصابيح الطرق بلذة كبيرة. وفصلته المدرسة، وحرمت عليه الحكومة دخول كافة معاهد العلم فى القطر كله.


وكتب له أبوه :
" يا ابنى! مادمت لم تفلح في المدارس فعد إلى بلدك تفتح لك دكانا ترتزق منـه، فأنت على قولك تعلمت أصول النجارة والبرادة والسباكة.... " "يحيى حقى- صح النوم- من الفصل الخامس بعنوان "زوج العرجاء" .


(2)
ولسان حال من يقرأ بعض سطور رواية "أديب" للدكتور طه حسين كأنه يستمع قصيدة الدكتور أحمد تيمور  "الأماكن الزائدة":
 
راح القطار 
يفر من بلد إلى بلد
وعكس الاتجاه
تفر أشجار وأعمدة
وغيطان وقطعان
وأسراب وسابلة
إلى حيث البدايات البعيدة
عائدة


ويضرب طه حسين مثلا في الجِّد على عِظم مصيبته في علة بصره، فقد سافر فرنسا لأجل طلب العِلم، في وقت كانت أوروبا فيه على شفا حرب عالمية، إلا أن هذه الفقرات تروي لنا بعضا مما اختمر في النفوس حينها، عن علاقة المبعوثين بوطنهم الأم والإدارة الحكومية به، وكذا علاقتهم ببعضهم البعض في أرض الاغتراب وتحصيل العلوم والمعارف.


يروي طه حسين في رواية "أديب" مشهدا عبر رسالة خطية، عن علاقات المصريين المبعوثين بالخارج، ليبرز لنا معان لم تكد تفارق ألفاظها ألسنتنا إلى اليوم، تدور حول أنماط التعامل بين المغتربين المصريين في بلاد الهجرة والعمل، وعلى قلة عدد المبعوثين المصريين في زمن الحرب العالمية الأولى، إلى عدد أقل من عدد أصابع يدي الآدمي الواحد، إلا أن أصول ذات العِلل لم تبرح مكانها منذ ذلك الحين، وهو ما مر عليه قرن من الزمان تقريبا. 


ونقرأ إحدى رسائل الأديب إلى طه حسين:


" أغسطس فى ....
لقد زلزلت الأرض زلزالها، واضطرب فيها كل شيء وكل إنسان أيها الصديق، وما أحاول أن أصف لك من أمر الحرب شيئا، فأنت تقرأ ذلك في الصحف المصرية والأجنبية ما لا أستطيع أن أبلغه ولا أن أًقاربـه. وإنما أكتب إليك محزونا لأن الظروف لم تهييء لك الرحلة التي كنت ترجوها وتعقد بها الآمال، والتي كنت أرجوها وأنتظر منها خيرا كثيرا. فليس لي بين المصريين المقيمين في باريس صديق آنس إليه إن سرتني الحياة، أو أستعين بـه إن ساءتني. وإنما نحن قوم متخاذلون متنافسون، يبغض بعضنا بعضا، ويمكر بعضنا ببعض، ويكيد بعضنا لبعض في كل شيء لسبب ولغير سبب.


قد طوى كل واحد منا نفسه عـن أصحابه، فجهل كل واحد منا من أمر أصحابه كل شيء إلا هذه الأمور الظاهرة التى ليس إلى جهلها من سبيل. فنحن نعرف من يختلف إلى السوربون في مواظبة، ومن يزورها لماما، ومن ينفق يومه في البيت وليله في القهوة. ونحن نعرف من يعبث مع هذه الفتاة من بنات الغيّ، ومن يدور حول هذه الفتاة من طالبات العلم. ونحن نعرف من تفسد عليه الغواية حياته كلها، ونعرف من يلهيه تتبع الطالبات في غير نفع عن الدرس والتحصيل.


ونحن نعرف من يكتب إلى أهله بالأكاذيب ويخدعهم بالأماني، ويستخلص منهم المال بالحق والباطل، وينفق حياته كلها في اللهو واللعب. ونحن إذا لقى بعضنا بعضا لم نتحدث إلا في هذا، ولم نستعن بأنفسنا إلا في بهذا. وأظنك تعلم أن ليس لي فى شيء من هذا أرب ولا لذة. فأنا وحيد بين المصريين فى باريس وإن لم أكن وحيدا بين الفرنسيين، فقد اتخذت منهم أصدقاء أحبهم ويحبونني، وآمن لهم ويأمنون لي.


ولكني ألاحظ أن لي نفسين: نفسا تأنس إلى الفرنسيين، وتجد اللذة في عشرتهم وأحاديثهم ومشاركتهم فيما يأخذون فيه من الجد واللهو، ونفسا أخرى مشوقة أبدا، ملتاعة أبدا، تحب أن تسمع صوتا مصريا صادقا، وأن تأمن إلى قلب مصري صادق. على أني قد حرمت لقاء المصريين والفرنسيين جميعاً. فأما أولئك فقد فروا بأنفسهم من الموت الذي يقال إنه قد يغزو باريس.وأما هؤلاء فقد دفعوا بأنفسهم دفعا إلى لقاء الموت ليردوه عـن باريس. وقد أنفت أن أفر مع أولئك، وضعفت أن أنفر مع هؤلاء، وآثرت موقفا لا أحمده لنفسي ولا ألومها عليه وهو موقف الانتظار... ".


(3)
ويستكمل طه حسين على لسان صديقه:


"... وبعد فإن أمور مصر محزنة حقا. أليس مما يسوء ويُحزن أن يعجز هذا البلد السعيد الناعم بالسلم ومنافعها عن أن يمد الجامعة من المال بما يمكنها من استبقاء بعوثها في أوروبا حتى تتم ما أرسلت من أجله؟


أوَليس مما يحزن ويسوء أن نرى هذه الجهود الضخمة الشاقة التي تبذلها الشعوب الصغيرة لتثبت للحرب وتحتمل أثقالها ونفقاتها، وتضحي فيها بما تضحي من الأنفس والأموال، وأن نرى أن مصر عاجزة أو بخيلة لا تستطيع أولا تريد أن تنفق على عشرة من أبنائها يدرسون العلم فيما وراء البحر؟


ولكن ماذا ينفع الحزن والأسى، وماذا يجدي اللوم والتقريع؟ لا بد مما ليس منه بد. عُد إلى مصر فأنت مضطر إلى أن تعود. ولأبق أنا في فرنسا. فأنا مكره على أن أبقى. وسنرى أيتاح لنا أن نلتقي، وأين يتاح لنا أن نلتقي. وداعاً أيها الصديق وإن لم يكن بيننا لقاء."


د. طــه حسين- رواية " أديب"- من الفصلين 15، 19