التوقيت الأحد، 19 مايو 2024
التوقيت 11:31 ص , بتوقيت القاهرة

لقطات أدبية لم ينقطع أثرها (3)

أستكمل ما بدأته في المقالين السابقين من استعراض لبعض الفقرات الأدبية، من بين سطور وأحداث الرواية المصرية في القرن العشرين، والتي قد تعرض رؤى كُتَّابها لبعض أصول العِّلات القديمة المستوطنة بمجتمعنا، واستمرار آثارها أو شبيهاتها إلى اليوم، بما قد يأتي بالاندهاش إذا ما سُطرت ملامح عِلاّتنا ومشكلاتنا اليوم بأقلام معاصرة، فلن نجد أنفسنا نبتعد كثيرا عن التعرض لذات الإشكاليات، بعد مرور العقود المتراكمة.


لم يكن نجيب محفوظ في حال طيبة على ما يبدو، حينما كتب قصته "الحب تحت المطر" بين عام النكسة وبين حرب العبور، إذ كان حال الوطن ليس على ما يرام، وعلى حد تعبير أحد أبطال الرواية "المسألة أننا أمة مهزومة ولكنها تأبى الاعتراف بهزيمتها"، وربما كان هذا الحوار القادم ذكره صالحا لأزمان مختلفة، وربما لمجتمعات أخرى إذا ما تعرضت لخطر يهدد كيانها واستقرارها.


وكمجتمع في أزمة.. يسطر محفوظ مشهدا للحوار بين المتسكعين بوسط البلد، ومحاوراتهم العبثية وتقييمهم للسياسة والحرب وللنساء والزواج وللجنس والحب والأجيال السابقة، وتعاملهم مع الدين وتساؤلاتهم حول الله، بما يُظهر إلى أي مدى كانت الأسئلة المُلحة في تلك المرحلة معبرة عن نوع من مراجعة الذات أو بالأدق إعادة صياغة ما تم اعتباره سلفا من المسلمات.. وربما لترويج فكرة شيوع الأسئلة داخل المجتمع وضرورتها الملحة، لم يحصرها "محفوظ" على ألسنة أبطال الرواية، وإنما بين مجهولين متكدسين بشوارع وسط البلد، مركز استشفاف الأزمات في مصر.


تشتبك علاقة الحب بالجنس بالانتماء الذي أصبح في محل شك، وأيضا بالله الذي تتكثف الأسئلة حول وجوده مع الأزمات الكبرى للمجتمعات.. ومن هذه المشاهد ما سطره محفوظ بالفصل (7) من روايته القصيرة نسبيا:


" اكتظت ناصية الأمريكين فلا موضع لقدم. تلاصق الشبان تحت الأضواء وانحصر المارة بين الأجسام الفتية. وقلَّ الكلام أو انعدم وحملقت الأعين وتحركت بعض السيقان بالرقص الخفيف. وثار سالك بحريمِه فى عباب الزحام غضبا لكرامته الشخصية فبما بدا وصاح:
- اخجلوا من أنفسكم، واذهبوا إلى الجبهة إن كنتم رجالا..
ولم يخجل أحد فيما بدا أيضا. وتساءل صوت:
- لم يرد أن يرسلنا للجبهة قبل الأوان؟
وقال صوت آخر ساخرا:
- لعله يظن أنهم يرسلون النساء والكهول!
وشبعت شلة من وقفتها فانسحبت من معسكرها ومضت إلى "جنيفا" فتجمعوا حول بضع زجاجات من البيرة. وجعلوا يشربون ويتكلمون كما يحلوا لهم، وغالبا بلا ضابط ولا نظام، غير أن مرزوق أنور تولى مهمة ملء الأقداح وتوزيعها.


- مشكلة الجنس فى .....
قاطعه:
- فى الجبهة مشكـلة أهم.
- إنما اتكلم عن المشكلات الداخلية.
- دعه يتكلم، المقاطعة ممنوعة.
- حدثنى أحد الكبار فقال إنه كان يوجد على أيامهم بغاء رسمى.
- زماننا أفضل فالجنس فيه كالهواء والماء!
- الماء لا يصل إلى الأدوار العليا.
- ولكـنه يصل إلى الأدوار السفلى!
- ليس كالهواء والماء فالبنات تعلمن الاستغلال.
- إنها ضرورات العصر.
- البراءة تنهزم أمام السيارة مثلا.
- توجد دائما فرص طيبة.
- كمـا توجد الباصات.
- وحفلات الساعة الثالثة فى السينما.
- لا أهمية لذلك، المهم هل الله موجود؟!
- ولمَ تريد أن تعرف؟
- كان شغلنا الشاغل الوحدة العربية والوحدة الأفريقية.
- ومادخل ذلك فى وجود الله؟
- أصبح شغلنا الشاغل متى؟ وكيف نزيل آثار العدوان؟
- معى دقيقة واحدة، أهو موجود؟
- كانت أياما مجيدة.
- كانت حلما.
- بل كانت وهما.
- ويضيقون بوقوفنا دقائق فى الناصية!
- الكلاب!
- إذا قدر لليهود أن يخرجوا فمن سيخرجهم غيرنا؟
- من يقتل كل يوم غيرنا؟
- ومن قتل عام 1956؟ من قتل فى اليمن؟ من قتل عام 1967؟
- يظن العجوز أن المحافظة على بنت نصف عارية هى كل شىء..
- علينا أن نبدأ من الصفر..
- أن تزاح عن صدورنا الكوابيس.
- لا أحد يريد أن يجيبنى، أهو موجود؟
- طيب يا أخى إذا حكمنا بالفوضى الضاربة فى كل مكان فلا يجوز أن يوجد!
- أليس من الجائز أنه يملك ولا يحكم؟
- يكفى أن يكون المصريون من عباده لكي يملك ويحكم!
- أأنت شارع فى الزواج حقا؟
- نعم. خذ قدحك..
- لماذا؟
- لأنى أحب.
- وما العلاقة بين هذا وذاك؟
- يجب أن نفعل شيئا على أى حال.
- بماذا نفسر تفشي الزواج المبكر بين الشبان؟
- بالفقر!
- بالموت!
- بنظام الحكم!
- سنضطر للوقوف غدا من شدة الزحام.
- أليس من الأفضل أن نهاجر بدلا من أن نتزوج؟
- الزواج هجرة داخلية.
- الحق أنه يلزمنا شيء من انتهازية الأجيال السابقة.
- لاغنى عنها في الزحام.
- إذن فلماذا يخشى العالم الحرب؟
- ليست الحرب بأفظع ما يتهدد العالم.
- أيوجد ماهو أفظع؟
- الفرد غير آمن تماما بين أهله، والأسرة تخشى الجيران والوطن مهدد من أوطان شتى، والعالم يحيط به عالم خفي من الكائنات الضارة، والأرض قد يخربها خلل بالمجموعة الشمسية، والمجموعة الشمسية قد تنفجر وتختفي فى ثوان.
- أنت مجنون!
- ولكن علينا أن نضحك وألا نسمح لشيء بأن يفسد علينا حياتنا الغالية..
-آمين.
-آمين.
-آمين."


(2)
ويكمل محفوظ بهذا المشهد من الفصل (10) عن رؤية شخوص الرواية لمفهوم الهجرة بين جيلين، جيل ثورة 19 والذي يعتبر محفوظ نفسه أحد أبنائه، وجيل تلاه شبَّ مع ثورة يوليو وبلغ مرحلة عطائه مع نكسة 67.. ومع تجربتنا المعاصرة في سنواتنا الخمسة الأخيرة، نستشف نسبيا أن تلك الأزمة لم تكن متعلقة بالفوارق بين جيلين بعينهما، بقدر ما ستظل ممتدة ومرتبطة بخوض التجربة الإنسانية الكاملة بحلوها ومرها على هذه الأرض وداخل حدود الوطن، وإيثار استكمال المهمة بها دون يأس، وما تتركه التجربة في صاحبها من علامات، تجعل من الصعب عليه تخيل أي مسار آخر خلاف الذي مرّ هو به في علاقته بوطنه، وأيضا اندهاشه ممن غلب يأسه طموحه سريعا، وقرر الخروج مبكرا بعيدا عن الحدود، تاركا المشكلات لأصحابها.


يروي محفوظ:


" لم تسعد منى بانتصاركبرياءها. أو لم تسعد كما قدرت. وفى أوقات انفرادها بنفسها غزتها الكآبة كالغبار. خافت أن ترتكب حماقات بلا نهاية. اعترفت لنفسها المتمردة بأنها مازالت تحب سالم رغم حماقته وسخافاته. أدركت أنها تقف حيال مشكلة وأن المشكلة تتطلب على أي حال حلا.

وجاء شقيقها الدكتور زهران إلى القاهرة فى إجازة فسُرَّت بحضوره وقصت عليه تجربتها الفاشلة. وأسف الرجل ولكنه كان مستغرقا بهموم طارئة فقال لها:
- إني أفكر فى الهجرة!
فدهشت منى وتمتمت:
- الهجرة؟!
- الحق أني جاوزت مرحلة التفكير فاستقر رأيي على الهجرة.
- ولكنك تنتظر فيما أعلم بعثة علمية؟
- لم ألق إلا المماطلة، ففكرت في الهجرة ثم استقر رأيي عليها.
- وكيف يتم لك ذلك يا أخى؟
- إني على وشك الانتهاء من بحثي عن الطفيليات وسوف أرسله إلى زميل مهاجربالولايات المتحدة ليعرضه على الجامعات وبعض المراكز الطبية ومن ثم أنتظر أن أُدعى للعمل في إحداها، وهو ما حصل معه بالضبط ..


فشهقت بقوة من شدة الانفعال وقالت:
- أهاجر معك!
ثم بثقة:
- إنى متخخصة في الإحصاء وأتقن الإنجليزية.
فابتسم الدكتور وقال:
- لئن نهاجراثنين خير من أن أهاجر وحدى..

وعارض الوالدان الفكرة، ولم يدركا لها حكمة مادام للشقيقين مستقبل مرموق فى مصر، فقال الدكتور لوالديه :
- البلد بات مقرفا.
وقالت منى:
- وهو لا يطاق.


وأراد الأب أن يستثير عاطفتهما الوطنية، ولكن الدكتور علي قال بجرأة عدَّها الأب قاسية:
- لم يعد الوطن أرضا وحدودا جغرافية، ولكنه وطن الفكر والروح!


وتألم الأب الذى ينتسب إلى جيل1919، جيل الوطنية المصرية الخالصة، واستمع إلى ابنه بانزعاج فخيل إليه أنه يطالع ظاهرة غريبة تستعصى على الإدراك والتفسير..... "

(3)


وإذا كان نجيب محوظ ينقل لنا حال الوطن فيما بعد نكسة يونيو، فإن "عباس أحمد" في روايته المتميزة "البلد" ينقل لنا حال المدينة الصناعية "المحلة الكبرى" في الفترة الليبرالية ما قبل ثورة يوليو 52، وأزمات عمال شركة مصر للغزل والنسيج الذين كان بينهم يوما، يروي عباس أحمد أحد مشاهد تصاعد الصراع بين العمال والحكومة، وكان المشهد منعكسا في فورة الأحداث، فكان المطلب الإداري وقتها بإيقاف الماكينات وتوقف العمل بالشركة، في حين كان العمال يرغبون في تدوير الماكينات واستمرار العمل. كما أن العلاقة بين أهالي المدينة والوافدين من العمال، الذين هاجروا من محافظاتهم إلى المدينة لأجل الالتحاق بالشركة الوليدة- علاقة ملتبسة، إذ كان الأهالي يعتبرونهم "غرّابة" أقل شأنا، يتكبرون عن مخالطتهم أو مصاهرتهم، وظلت هذه العلاقة سائدة لفترة ليست بالقليلة..


يروي عبّاس أحمد:


" ..... وانفتح الباب، ودخل عبد الرزاق المنصوري ومعه رفاقه، وسار علي أمامهم بمصباح نمرة خمسة. وجلس الرجال.
كانت أيديهم غليظة جافة كأنها قطع من خشب الزان. وكانت أصواتهم عميقة خشنة، ولما أخذوا أكواب الشاى الصغيرة بين أيديهم راحوا يرشفونها بلذة، وكانت عيونهم كعيون الصقور.


- الحكومة هتقفل الشركة. وردية الصبح مش هتشتغل.
- مين اللى شاع إن احنا حرقنا المحركات؟
- معقول يوقفوا الشركة،ويخسروا آلاف الجنيهات.
ودار الكلام بين الرجال. يجب أن نفهم الموقف على حقيقته.
لن يضرهم أن يخسروا ألفا، إذا كان عندهم مليون وإذا كانوا سيعوضون الألف بعشرة آلاف، ولكن لا نستطيع أن نخسر عشرة قروش إذا لم يكن عندنا غيرها. قد تستطيع إدارة الشركة أن تستمر يوما آخر أو يومين، ويسقط البلد تحت وطأة الجوع، ويستجدي، ويكون البلد قد أصبح على استعداد لأن يفتك بنا. ماذا نفعل؟


لا بد أن نعمل مهما كان الأمر. ماهي القوات التي علينا أن نواجهها؟ فرق من الجيش لا تضرب إلا بأوامر من سراى قطّان باشا. وفرق من البوليس مسلحة بالهراوات الغليظة، تأتمر بقياداتها من الضباط والكونستبلات المرابطة عند مداخل الشركة. وأخيرا مجموعة من فتوات سوق اللبن. وهذه هي التى أشاعت أننا أحرقنا المحركات.هل بينهم مدبولي؟ أجل بينهم مدبولي .... "


عباس أحمد- البلد- الفصل الأخير