التوقيت الإثنين، 29 أبريل 2024
التوقيت 04:58 م , بتوقيت القاهرة

رضا غنيم وأمي.. وحدث في مثل هذا اليوم

جميلة هي الذكريات، وملعونة أيضًا.. تضحكنا وتبكينا.. تحلق بنا في سماوات من السعادة، وتهوي بنا إلى أراضين من الحزن والتعاسة والألم ولوعة الفراق.


مهما حاولنا النسيان تظل كثير الذكريات محفورة دواخلنا، تأخذنا إلى عالم نتمى الهروب إليه، أو الفكاك من أسره.. قد تجمعنا بأشخاص ظننا أننا نسيناهم.. وربما تذهب بنا إلى أماكن لم نتوقع أنها ستترك أثرًا في جدار قلوبنا وعقولنا.


لماذا يعطي البعد قيمة مضافة للأشخاص والأشياء؟ لماذا لا نشعر بقيمة الشيء إلا بعد الابتعاد عنه أو فقدانه؟ لماذا نجتر حديث الذكريات، ونتمنى أن تعود من جديد؟


ابتسم.. اليوم 3/3 ذكرى مرور أعوام كثيرة على ارتباطك بزوجتك.. هكذا يخبرني منشور «فيسبوك»، وكأن أحدًا أخبره بمعاناتي مع التواريخ «المهمة» فأراد أن يكسب ثوابًا في شخصي ويذكرني بها.. وعلي كل حال، شكرًا لك يا مارك يا ابن زوكربيرج..!


ليس كل ما يأتي من الفيس أو الذاكرة يسر القلب أو يشرح الصدر.. فكلاهما «الفيس والذكريات» كأحوال الطقس أو أمواج البحر..  يفرحك وقد يغمك.


 أعود بأفكاري إلى الوراء. أعبر أعوامًا خمسة. أتوقف عند تلك اللحظة في هذا اليوم 3/3 .. افتش عن أشياء غائبة بين ثنايا ضحكته الطفولية، وملامحه البريئة، وعينيه اللتين تشعان عبقرية حزينة، وكأنها كانت تدرك أن «عمرها قصير»!


«أهلًا يا عم أيمن». أول القصيدة محبة.. ما الذي جرأ هذا الشاب عليَّ.. عرفني بنفسه «رضا غنيم»، فعقبتُ: «حصل لنا الرعب والتهديد يا مشير»! وبنظرة حادة، ولهجة صارمة ووجه عبوس متجهم، هاجمته بسيل من الأسئلة، التي غالبًا ما تكون الإجابة عنها «كاذبة»! نعم كاذبة، ونحن مَنْ نضع قواعد الكذب هذه!


كنتُ- لحظتذاك- مديرًا للديسك المركزي في «فيتو».. وبنفس وجه حسام البدري طلبت منه الجلوس على أحد أجهزة الكمبيوتر ليتعامل مع أحد الموضوعات المتراكمة في مرحلة الديسك.. وجهه تغير.. بدا مضطربًا.. أعلم أنه سبَّني في سره.. وعلى استحياء استأذن في تدخين سيجارة.. وبعدها جاء متهللًا.. ادركتُ أن أحدًا أخبره بأن ما فعلته معه لم يكن إلا وصلة تهريج سوف تمتد إلى ما شاء الله.


شيء ما يجذبك إلي «رضا غنيم»، هل لأنه كان يمثل الأحلام والآمال وأنت ترى فيه تحقيق ما أخفقتَ فيه، أم لأنه كان «ابن موت»، ونحن ننجذب إلى الموت ونتمناه عندما تضيق بنا الدنيا، ونبغي الخلاص منها ومن «أولاد الـ....» الذين يعكرون علينا صفو الحياة.


الرياح تأتي بما لا تشتهي السفن.. رحل «رضا» ولم يرحل «أولاد الـ.....».. رحل وترك لنا دفاتر مملوءة برسم طفولي وحكايات معجونة بدقي? المحبة.  


جميلة هي الذكريات وملعونة أيضًا.. منشورات الأهل والأقارب على الفيس تذكرني بأن 3/3 هو يوم وفاة عمي الأصغر، والذي كان الأقرب إلى قلبي وقلوب أخوتي.


آهٍ من الذكريات.. آهٍ من تلك المشاهد التي حفرناها داخل أعماقنا.. آهٍ من تلك الصور التي حفظناها في عيوننا.. آهٍ من تلك الأشواق والحنين العظيم الذي حبسناه داخلنا، ثم يداهمنا فجأة..!


الذكريات كالأنظمة الديكتاتورية، لا تعترف بالديمقراطية، ولا تترك لك خيارًا.. فمع أن كل واحد منا يملك ذكريات كثيرة، لكنه لا يستطيع اختيار ما بتذكره.. هي التي تفرض نفسها علينا في أي وقت تشاء؛ في صحونا ومنامنا؛ في حركتنا وثباتنا؛ في أفراحنا  وأحزاننا؛ في طفولتنا ونهاية مطافنا.. فأي استبدادٍ تمارسه تلك الذكريات؟!


تصر الذكريات على ممارسة دكتاتوريتها، فتذكرني بوفاة أمي في نفس شهر 3، مارس المتقلب!


يا الله، نحن لا نعرف حقيقة اللحظات التي نعيشها مع أحبابنا إلا بعد أن يغيبوا في أعماق الذاكرة.. لكن معظم الذكريات الجميلة أصبحت تأتينا على هيئة وجع.. وما أكثر الأوجاع التي باتت تداهمنا.. فرفقًا بنا، رفقًا بنا..!