التوقيت السبت، 04 مايو 2024
التوقيت 06:50 م , بتوقيت القاهرة

الانتخابات المصرية 2015 رسالة إلى البرادعي

1


لفتت نظري تغريدة للدكتورمحمد البرادعي يعلق فيها على فوز حزب سان سو تشي في الانتخابات البرلمانية في بورما. والتويتة على نظام إياك أعني فاسمعي يا جارة، يزف فيها خبر انتصار الديمقراطية في بورما.


إنما لو دخلنا إلى التفاصيل لبان لنا كيف أن الدكتور البرادعي، وهو الرجل الذي لم يخض أي انتخابات، لا بعد 25 يناير ولا بعد 30 يونيو، تختلف تماما عن المدرسة السياسية البراجماتية التي تنتمي إليها سان سو تشي.


سان سو تشي قبلت أن تخوض انتخابات ربع مقاعدها محجوز مسبقا لمجلس عسكري حاكم هناك. لأنها علمت أن هذه هي الخطوة الانتقالية الأكثر نفعا في المرحلة الحالية.


في الموضوع تفاصيل أخرى عرضت لها في مقال سابق بعنوان “سان سو تشي في مواجهة الجنرالات”، فلن أعيد هنا، إنما أشير إلى أبرزها في سياق مقالي الحالي، وهي أن سان سو تشي لم تضع يدها في يد أي حركة ميليشياوية مسلحة في بورما، في وجود 12 حركة مسلحة هناك. بعضها انفصالي، وبعضها يرفع شعارات ديمقراطية وتنديد بالحكم القمعي.


2


هذه مقدمة لا بد منها لكي أصل إلى ما أريد أن أسجله عن الانتخابات البرلمانية الحالية، بعد طوفان من الآراء وليدة اللحظة التي أطلقناها على المرحلة الأولى. والتي أعتقد الآن أننا كنا متسرعين فيها. إذ أعتقد أنه لو استمر مسار السياسة المصرية ولم يتعرض لانتكاسة قوية فسوف تكون انتخابات 2015 انتخابات فارقة في تاريخ مصر، يؤرخ بها.


وفي هذا نقطتان لا بد من التأكيد عليهما. أولهما أنها ليست انتخابات مثالية. أبدا أبدا. لكنها انتخابات خالية من التزوير الإداري، على ما تفيد التقارير حتى الآن. أما النقطة الثانية فإن وضعها في مقارنة مع انتخابات سنوات ما بعد 25 يناير، على عكس المتوقع، يأتي لصالحها. على عكس ما يشيع الآخذون بالظاهر.


3


بنيت رأي ذاك على مجموعة من الاعتبارات.


انتخابات ما بعد 25 يناير كانت انتخابات حشدية، امتدادا للانتخابات القروية العائلية، وهي دائما أكثر سخونة في مصر من انتخابات المدن. لا يغرك الطوابير الطويلة التي رأيناها في المدن. فقد كان هذا الحشد امتدادا لجوهر الحشد القروي. حشد للعائلة العقائدية - الإخوان والسلفيين - التي حلت محل العائلة الجينية القروية. مع استثناءات قليلة جدا. (راجعي تشكيل برلمان 2012)


أما انتخابات 2015 فهي “أول انتخابات انتقالية حقيقية”.


استمر الحشد العائلي القروي، وهذا طبيعي نظرا لتشكيلة المجتمع المصري.


اكتسبت المدينة، والخيارات السياسية، بعيدا عن الحشد العائلي والعقائدي، مكاسب إضافية. دعينا نقول في هذه الانتخابات تسللت أيضا الدعاية السياسية الحزبية، تخاطب الخيارات الفردية.


ومن هنا فالإقبال الخفيف على الانتخابات لاحظناه من موقعنا في المدينة. هذا الإقبال الخفيف يعكس نسبة التقدم في الانتخابات المدينية، نحو اختيار “لا عائلي ولا عصبي”، يناسب طبيعة المدينة.


والدليل على كلامي أن هذه الانتخابات أسقطت “العصبيات المدينية البديلة”، وأقصد بها حزب النور.


إنما الوضع في القرى مختلف. الاختيارات العائلية كما هي. وعدد الأصوات المطلق الذي حظي به مرشحو عائلات أكثر من انتخابات سابقة. مرة أخرى، الفارق النسبي الناتج عن سهولة إجراءات الانتخاب (بالبطاقة)، وعن تشجع أعداد متزايدة للمشاركة، لا يزال فارقا قليلا، لكنه تطور في الحياة السياسية حتى في القرى.


ثم يبقى أن الظاهر من مسار الأحداث أن انتخابات الجولة الثانية ستكون أكثر سخونة من الأولى. حتى إحساسنا بها ونحن نعمل في تغطية الحملة الانتخابية - كإعلاميين - مختلف عن الإحساس الذي لمسناه قبل الجولة الأولى.


4


هنا أعود إلى ما بدأت به. إلى البراجماتية السياسية. إلى الفهم الواقعي لكيفية عمل السياسة.


من قال إن الديمقراطية المثالية ستنتج فائزا مثاليا، أو برلمانا مثاليا؟ إن من يقول هذا هم المثاليون المخادعون. وكل مثالية في السياسة خداعة. لأنها تعلم أنها تختفي وراء المثالية لتحقيق أهداف ذاتية.


كيف نتخيل أن ينتج المجتمع المصري، على تركيبته الحالية، ووضعه التعليمي والثقافي والفني والاقتصادي والحضاري الحالي، برلمانا عظيما؟


إزاي يعني!!


سينتج برلمانا في مستوى الحال التعليمية في مصر. حيث نصف الشعب أمي والنصف الآخر متعلم تعليما رديئا.


سينتج برلمانا في مستوى الحال الاقتصادية في مصر. حيث تتركز وسائل الإنتاج الاقتصادي في يد كيان مركزي. وتقف البيروقراطية عقبة أمام العقول الإبداعية الاستثمارية المستقلة.


سينتج برلمانا في مستوى الإعلام في مصر، فقير الإبداع ومشغول بالمشاحنات والملاسنات.


ولو كانت الديمقراطية مثالية، فالمفترض أن ينتج هذا البرلمان حكومة ترضيه. حكومة في نفس ذلك المستوى.


ماذا أريد أن أقول؟


إن كثيرا من “المثاليين” الذين يطالبون بـ “ديمقراطية مثالية”، لن يرضوا عن نتائجها. وهم يعلمون ذلك. يعلمون ذلك علما يقينا. بل إنني أقول إن ذلك سبب “القمص السياسي” الذي يظهرونه. إن ما يطالبون به حقيقة هو “تضبيط الممارسة السياسية لكي تأتي بهم هم”، لأنهم قرروا أنهم خير من يقود البلد.


وبالتالي


5


فرأيي أن القوى السياسية تخسر كثيرا بسبب قرارها عدم المشاركة في الانتخابات الحالية. تخسر من مصداقيتها.


على سبيل المثال تويتة البرادعي المشار إليها أعلاه تحيي فوز سان سو تشي في دولة وضعها أسوأ كثيرا من وضع مصر على صعيد الحريات السياسية. حتى اليوم. والفائزة التي يحييها امرأة ظلت تحت الإقامة الجبرية 15 عاما، وشاركت في الانتخابات بمجرد خروجها، ولم تتحجج بأن “العسكر” يحتجزون 25? من المقاعد لأنفسهم وينافسون على الباقي.


هذه خسارة في المصداقية. البرادعي يتخيل نفسه سان سو تشي، لكنه لا يتصرف كسان سو تشي، ولا يناضل كسان سو تشي. البرادعي - عن حق - هو رمز الممارسة السياسية في مصر، هو خلاصتها وجوهرها. تريد من الدولة أن تكون أبا وأما، وتريد من نفسها أن تصرخ كمحدثي البلوغ، وتعتقد أن هذا هو التمرد والاستقلالية.


لكن الخسارة الأكبر من هذا السلوك قد تكون خسارة المجتمع ككل. شيوع الروح التشاؤمية التي قد تثني القوى السياسية عن البناء على هذه الانتخابات الأهم في تاريخ مصر بعد 1952. أو انفضاض الناس عن الإحساس بجدوى السياسة. وشيوع روح “القمص السياسي” كبديل للإيجابية والكفاح. وشيوع روح الكلام الحلو بديلا عن الكلام المنطقي الواقعي، والأحلام بديلا عن السعي لتحقيقها.


كل هذا لا يصب إلا في صالح تقوية التفكير المركزي، وفي صالح الصدمة من المنتج الواقعي. كما يؤخر تطور مجتمعنا سياسيا. بحيث إن أجرينا انتخابات ديمقراطية مثالية بعد 10 سنوات، لن يكون الناتج إلا أسوأ من الناتج الحالي. الشباب الذين يعتقدون أن ليس هناك أسوأ عليهم أن ينتظروا عشرين سنة، لكي يدركوا أن سقف التطور مفتوح، وقاع التدهور مفتوح.


هذه هي الانتخابات الانتقالية الحقيقية في تاريخ مصر. وبناء على تصرفنا بعدها سيتشكل تاريخ مصر السياسي.