التوقيت الخميس، 25 أبريل 2024
التوقيت 06:06 م , بتوقيت القاهرة

حجر بحيري

ربما كان خليقا بأي مجتمع استقر به المقام في عصرنا، أن تكون انتهت به أزمات الجدال التاريخي والفقهي على أعتاب عصر تضاعُّف المعرفة اللحظي الذي نحياه، أو أن تكون قد ضمرت بما يكفي لأن تحتل مساحة هامشية تلائم بُعدها الزماني عن عصرنا الحالي، فمن المآسي أن نظل ننتقل من عصر لآخر ونحن نحمل على أكتافنا قضايا معرقلة، لم نكن يوما طرفا أصيلاً في نشأتها. 


ولكن رغبة العيش في الماضي، وحنين استلهام تجربته التاريخية السالفة، الطاغية على مزاجنا العام، أبيا إلا أن يلقيا علينا بظلالهما، في لحظتنا المعاصرة.


إذا كان هناك عنوان أصيل في هذه الفترة أو حتى لثلث قرن مضى.. كان يجب أن يكون سؤال: من يقتلنا؟! ولماذا نُقتَل؟! ومن الذي يضمر بنا شرًا؟ ولماذا نتخلف؟! وهو سؤال قديم، ليس وليدا لصراعات المرحلة السياسية، فتجذُر فكرة التقرب للسماء بالدماء، وإزهاق الأرواح تنفُلًا، ليس في حاجة مطلقا إلى مبررات سياسية معاصرة، قد تبدو تافهة إذا ما قورنت بالأهداف العظمى لحاملي فكرة دولة الإله في الأرض!


تخاذلت الغالبية العظمى عن طرح الأسئلة ومواجهتها، أما الأقلية التي تصدّرت بوازع من وطنيتها نحو المواجهة الصريحة، تم التنكيل بها بالإرهاب الجسدي أو المعنوي، ومنهم من نال جزاءه بالقتل، ولم ينل تقديرًا لائقًا، وانضم المزاج العام إلى فكر من تخلصوا منه، أو الذين برروا عملية القتل شرعيا، فكان القتل شعبيا مضاعفا بالتجاهل والاستهانة!


من رحم هذه الأزمة الممتدة، ومن خلال طرح التساؤلات السابقة، ظهر إسلام بحيري في عام 2008 ببحثه المميز، الذي نشره موقع "اليوم السابع" في حالة دفاع وتبرئة للرسول "ص" من الزواج بطفلة في التاسعة من عمرها، وانتهى ببحثه إلى كون عمر السيدة عائشة وقت زواجها ثمانية عشر عاما، واستمر في كتابة أبحاثه ونشرها، حتى عرف طريقه للفضائيات، وكان ما كان مما تابعه الجميع.


ففيما يبدو لنا وبعيدا عن التفسيرات المتشككة لظهوره، هو شخص حمل أدواته وقرر التصدي لما ساد وتسبب فيما عانيناه ومازلنا نعانيه من تخلفٍ وتهاوٍ، ولم يتهرب من المواجهة في أوج سيطرة الإسلاميين على السُلطة، بل أتى من ظل الراحة في الخليج إلى لهيب المواجهة في ظل حكم إخواني..


فحوادث الاغتيال اليومية، ولفرط اعتيادها، لم تعد تثير أسئلة وتحليلات تليق بالأرواح التي تزهق يوميا، قدر ما أصبح الخوف من إسلام بحيري سائدا، استنادا لأن مصر قد اخترقت بوجوه عديدة في سنوات الأزمة، فما المانع أن يكون من بينها إسلام؟! 


حتى أن البعض انتقل من خانة مقاومي الإرهاب، إلى خانة متجاهلي مسبباته، انتصارا منهم كما يظنون للدين في مواجهة إسلام بحيري.. وهذه الحوادث ليست منقطعة الصلة بفتاوى وأحكام تاريخية، قُدِّس أصحابها بما لا يقاس.. حتى حمل الكثيرون فوق عاتقهم عبء قطع الصلة بين مسببات التخلف والإرهاب، وتقديم تبريرات تاريخية وفقهية، لم يحلم بها أشد المتطرفين تفاؤلا.


مما سيجعل هؤلاء يواجَهون مستقبلا بأقوالهم، التي احتكموا فيها إقرارا وتسليما وتبريرا لكتابات الأقدمين، كمرجع وحيد وحاكم وفوقي وصحيح لإرثنا الديني، وحينها ستنعدم القدرة على المراوغة أو تقديم مسوغات بديلة لما يقدمه الإسلاميون، ولن يبقى سوى التسليم لهم، فمن فمك أدينك.


قد يكون مشروع بحيري لم يكتمل بعد، أو غير مكتمل بالأساس، وقد تكون المخاوف السائدة من أن نقع في فخ كالذي وقعنا فيه فى 2011، بإزاحة السلطة الحاكمة دون تقديم بديل، فلم ينتج لنا سوى الفوضى، ويُخشى من أن يكون بحيرى يحمل لنا هدما للتراث، فنجد أنفسنا وقد أصبحنا في العراء دون بنية بديلة تحتوي تكويننا العقائدي والفكري، وهو تخوف مشروع ثان. ولكن يجب ملاحظة أن بحيري لم يقاوم مشروعا رصينا متكاملاً، بل هاجم ما يتبرأ منه مهاجموه علنا، ويستغفرون من تبرؤهم سرًا، فبحيري قد جاء بالأساس في وقت تسود فيه العقلية السلفية، وليس في وقت يسوده مشروع حضاري متماسك، وإلا ما كان ليستطيع أن يجد لنفسه براحا.
 
بالأمس وصف د. يوسف زيدان أزمة إسلام بحيري بأنها أزمة مفتعلة للإلهاء، دون أن يشير إلى الفاعل، وهذا التفسير بالإحالة للإلهاء، هو حديث متكرر في شرح الأزمات السياسية والاجتماعية، ومنطقي أن يكون هناك فى مسرح ملتهب لسنوات كالذي نعيش به، من يلجأ للإلهاء عمدًا أو يستغل نشوب أزمة وفقا لمصالحه.. لكن بما أن الفاعل مجهول والتشخيص متكرر، فإن القول بأن الأزمة مفتعلة وضعيفة ومتهافتة عديمة القيمة، هو تشخيص في حد ذاته يقع بصاحبه في فخ  الإلهاء عن جادة الأمور بتهوين عظائمها وأخطرها.


فالوطن الذي فقد كثيرًا من هويته الحضارية، وكاد يخسرها بالكلية، وخسر سلطته الوطنية الحاكمة بوقوعها في يد فرق إرهابية متآمرة وخائنة له، كان سلاحها الأمضى في معركتها، هو حملها لتراث السلف فوق أكتافها، ومطالبتها بإحيائه وتطبيق تفاصيله، ولم تنقطع لقرابة نصف قرن خطب سباب وتكفير شركاء الوطن من كل طيف سياسي وديني، يصعب الآن أن أصف أزمته الكبرى بكونها مجرد إلهاء.


والأزمات التي يراها زيدان تافهة مفتعلة، لا تقاس على قدر قناعاته الشخصية، ولكن بقدر تأثر الناس بها، وتغرسها في يقينهم، ومدى تأثيرها في سلوكهم وحواراتهم، صحيح ليس كل مسلم يذهب ليزوج ابنته في التاسعة من عمرها، لكن شيوع التبرير، يجعل من الفتاة رهنا لقرار أهوج قد يتخذه الحاكم بأمره في لحظة ضيق أو يأس، كما أن ختان الإناث مثلا مازال سائدا وبمشروعية مستمدة من الدين أكثر من غيره، ولا يمكن إنكار الاحتقار والتعالي الطائفي القادم من ثنايا هذا الموروث.


 بل لا يمكن إنكار أن هذا المزاج الديني مولّد الأزمة، والقائم على تقديس الماضي ورجاله، هو سبب القضية الأولى التي تهدد مصر حاليا، والسبب الرئيسي في عدم استقرارها.. لكن البعض في سبيل خوفه من مواجهة أزمته بما قد يصدم فكره، يرى أن قبض العصا من منتصفها هو الخلاص حتى تمر الأزمة كسابقاتها، ونكمل طريقنا نحو مزيد من التكبيل.. ووصل الحال بالبعض من الهراء إلى الفصل بين الإرث الفقهي وبين نشوء جماعات دينية تعيث فى البلاد خرابا وتزرع لنا الموت بكل طريق.


فالتعالي الثقافي عن جوهر الأزمات، بأحاديث فضائية بقلب هادئ، وارتكانا إلى اطمئنان كفلته جهود مؤسسات وأفراد قد عانوا كثيرا من سيطرة خطاب تقديس التراث، واجههم هم أنفسهم باعتبارهم طاغوت الفرعون، وأحل دماءهم ومازال - هذا التعالي لم يحل يوما أزمة مرت بها البلاد.. بل أنه حين اشتداد الأزمة تخاذل هذا الخطاب بين الميوعة أو مجاراة فريق الإرهاب أو الانسحاب فى أفضل الأحوال.


تستمر محاولة التخلص من عبء المواجهة، بتصدير صورة أن الصراع الحالي هو صراع بين تفريط وإفراط، أو بين متطرفين كلاهما على نقيض مع الآخر، وهذه حكمة من يود الخروج من الأزمة دون عصف ذهني لا يتحمله، أو قد يعبث بعقله بما لا يطيق.


أخطأ زيدان وكثير من أفراد التيار الذي يتبنى وجهة نظره، في محاولة نسب بدء الأزمة لبحيري، باعتباره أتى ليعبث بأنف المغتاظين دون داع.. وهي نظرة مجافية للحقيقة، فعفريت القمقم قد أخرجه الإسلاميون وليس إسلام، فخرجوا منه بالروايات والأحاديث الشاذة والغريبة، وتعالوا بها على العامة، بدلا من إغفالها للأبد وتخطي مرحلتها، استعلاء بالدين عما يشوهه!


وكذلك استعراض معرفتهم، فسادوا بها وليس بغيرها العامة والخاصة ووصلوا لأرفع الدرجات، وربما يحزن زيدان لو علم أن ما قد يوقف مسعاهم، ليس هو بعلمه وثقافته وحجته التي يخشون أن تلجمهم، فهو بالنسبة لهم مجرد "أدباتي" ليس لاسمه فخامة رنين لقب "الحويني" مثالا.


ولكن لسوء حظهم أن عفريتا آخر قد ظهر لهم، وهو "الإنترنت" الذي أفقدهم صوابهم وجعل من المعرفة مشاعًا ميسورًا، يسهل امتلاك المعلومة وتصنيفها وتوثيقها في دقائق، وتحولت معلوماتهم وفتاواهم الشاذة إلى صفحات مخصصة للاستهزاء والسخرية.


فلم تعد الكتب القديمة حكرا لهم وحدهم، وعلى الجانب الآخر لم يستطع أحد أو جهة منافستهم وامتلاك عقول الجماهير كما امتلكوها، لا بأدواتهم ولا بأدوات مغايرة، كما تخاذلت الغالبية وآثرت النخب السلامة.


في أجواء كهذه ظهر بحيرى بنمط يتبناه، يسعى إلى تنزيه المقدس وفصله عن سلوك الأتباع الأُوَل، ومنتجهم المرتبط بزمانهم وتاريخهم.. فتصدى له المُكلفون والمتطوعون، ممن تغافلوا كثيرا وما زالوا عن التصدي لهؤلاء الذين أخرجوا العفريت بالأساس.


نهايةً، قد يكتمل مشوار بحيري، وقد يتوقف عند هذه النقطة، لكنه في رأيي شخص امتاز بشجاعة يفتقدها الكثير من هواة التلفيق والمراوغة، وقد ذهب مباشرة للب الصراع مواجها خصومه بلكمات صريحة، دون مقدمات أو ابتسامات مداهنة صفراء، أطلّ وهو يقرأ من الورق، ككل الذين عانوا ويلات سيطرة المدمرين، ممن لا يستطيعون أن يحتموا بحفظهم أو تنجدهم ذاكرتهم البسيطة، وفرض على خصومه أن يستعينوا بحواسبهم، وألقى بحجره فى بحيرة آسنة ملأتها الطحالب، وهذا إنجازه الأكبر.