التوقيت الثلاثاء، 23 أبريل 2024
التوقيت 07:46 ص , بتوقيت القاهرة

فساد مرغوب بشدة

حتى قبيل عشر سنوات مضت، كان لفظ "الفساد" في الوسط السياسي المصري له معنيان، أحدهما موافق لدلالة استخدامه الحالي، وهو الفساد السياسي والمالي، المرتبط باستغلال النفوذ وتزاوج السلطة والثروة، واستغلال المال العام، وتحقيق الثراء بدون وجه حق وتحقيق مكاسب شخصية عبر وظائف عامة.. إلخ.


وأما المعنى الثانى، فكان ينفرد به الإسلاميون، وهو الفساد الأخلاقي المرتبط حسب مفهومهم بكل ما يرتبط بالجنس والعُري والسفور، السينما، وغياب الحجاب، وكذلك العلاقات الجنسية خارج منظومة الزواج، بالإضافة لاختلاط الزملاء من الجنسين في الجامعات والمدارس وأماكن العمل.


حتى هذا الحين كان التيار الإسلامي، أشبه بموسيقى الأندر جراوند، له عالم مواز يسير فيه، تجربته السياسية تعبر عن حلم بعيد المنال، ودوره الفاعل كان يتمثل فى نظرة ساهمة تليها عبارة "ترونه بعيدا ونراه قريبا"، كذلك لم يكن لهم الاعتراف الإعلامي والسياسي كمعارضة وطنية. التواجد كان خارج الإطار الرسمي والقانوني.


كان دورهم تمهيديا بامتياز، دور يبحث عن الإعداد بنفس هادئ، دور لا يرغب في الظهور والتصدر، دور يراقب عن كثب دون تدخل ملحوظ، دور التواجد دون القيادة.. وللحق، كان لهم فاعلية أكبر كثيرا في تثوير الشارع، وتوجيهه نحو التعلق بالماضي الطوباوي المنعكس فى مرآة وجوههم المتوضئة، وقد هيأوا الشارع تماما لفكرة النقم وانتظار الفارس المخلّص.


فلم يكن البراد عي ولا كفاية ولا 9 مارس، وراء غرس فكرة التغيير واقعيا فى نفوس المصريين، بل كانت خطب الجمعة ودروس الوعظ  تقوم بهذا على أكمل وجه.. كان هؤلاء فقط واجهة ما بعد قرار التصعيد، واجهة أُعدت بملمح مدني تصلح للجلوس أمام الكاميرات، لكن كان هناك من لا تعنيه الكاميرات، ارتكانا لما هو أهم وأقوى: الجماهير التي صدقت وآمنت وانتظرت والنفوس التي شُحِنت بعواطف جياشة.. لذلك لم يكن أول حاكم لمصر بعد الثورة مدنيا، وإنما ذهبت نفوس المصريين نحو ما غُرِس بها.


لم تكن صورة المعارضة العاجزة التي تحتمي فى قوة أعداد وعنف طبيعة الإسلاميين، ودعوتهم المؤثرة، مجرد صورة مستجدة فيما بعد يناير 2011.


ولم يكن دفاع فئات عديدة من المعارضة المصرية عن الإسلاميين والتقليل من شأن عنفهم وإرهابهم وترويج الأعذار لهم، وتوسم الخير والوطنية فيهم، جديدا أيضا. وإنما هو سابق، ومن قبيل الدفاع عن التواجد، وإدماج الذات فى بنيان أقوى، تنجح من خلاله المعارضة غير المؤثرة، فى إيجاد موضع قدم لها على الساحة السياسية، بالاحتماء فى رداء أوسع يخفى ضآلتها ويشعرها بالقوة والتحالف.

حتى أن منذ قرابة عشرة أعوام، قامت صحيفة أسبوعية بإجراء تحقيق صحفي، حمل استشهادا لأحد المعارضين، يذكر فيه: أن الإسلاميين قد أرهقوا المعارضة المدنية في محاولة إقناعهم، أن مدلول كلمة الفساد في السياسة، ليس له صلة نهائيا بما يروجه الإسلاميون بشأن الفساد المرتبط بالعري الجسدي، وأن الفساد يرتبط بفساد نظم الحكم وإدارتها وسمعتها المالية!

فالإسلامي كان يناضل حينها، بمحاولة إقناع الجماهير بكون الفساد "الأخلاقي" الذي ينغمس فيه المجتمع المسلم، هو من أسباب الانهيار على كافة الأصعدة، لكنه على وجه آخر كان يشارك في صناعة هذا الانهيار كأي مواطن عادى، بما يرسخ السخط، ويراكم الشحن النفسي الجماهيري.


يمكنك أن تنظر مثلا لتشويه الجدران والمباني العامة والخاصة فى موسم الانتخابات، لم ينتج الإسلاميون أي فكرة خلاقة للدعاية، من خلال منهجهم الداعي لكون "النظافة من الإيمان"، وكذلك حجز أرصفة الطرق العمومية أمام محلاتهم الخاصة، أو اللجوء للرشوة والإكراميات بشكل شبه علني، إبرازا لتهاوي النظام وتشجيعا للسخط عليه، وكذلك استحلال تجارة العملة والآثار، وتحقيق ربح "حلال" منهما، وترويج فكرة مخالفة القانون بين شباب الجامعات، وإبراز نماذج تكسّبت من تجارة العملة والآثار بكونها تحيا فى نعيم الدنيا والدين معا، في محاولة لوضع الشباب مبكرا فى حال خصام مع القانون والدولة من ناحية، ولكسب تعاطفهم نحو الدين، الذى يبيح لهم ما يحرمه القانون الوضعي والأنظمة الظالمة من ناحية أخرى.

وأخيرا اقتنع الإسلاميون بالمدلول المغاير للفظ "الفساد"، وبدأ اللفظ يجري على ألسنتهم في الفضائيات، وأيضا من خلال حضورهم في برلمان 2005، اقتنعوا بالفساد بمدلوله السياسي، الذي هو يقودهم في النهاية إلى مصب "الفساد" الآخر بمدلوله الأخلاقي والديني الذين يؤمنون به.


فالمفهوم الآخر للفساد، قد أعجب الإسلاميون للغاية، وأصبحوا من أشد المناصرين لاستخدام هذا التعريف، ويمكنني القول بقلب مطمئن: إنهم قرروا تجنيد الفساد لأجل نصرة الدين!


ولكن.. هل كان الإسلاميون يرغبون فى إحداث  طفرة أخلاقية بالمجتمع بالفعل؟!


توافق ما سبق مع دعوة الإخوان لعرض أنفسهم على المجتمع كحاكم منتظر ذى وجه مغاير، وبدلا من الحث على مقاومة فساد واحد، أصبح هناك فسادان اثنان، يمكن التنويع بينهما بعزف متباين.


اللعبة أصبحت أكثر إمتاعا وضجيجا، ووجد الإخوان أنفسهم بشكل أفضل في زي المحارب المدافع عن أموال الشعب وحقوقه، واستطاع الإخوان وحلفاؤهم الترويج لكونهم شرفاء، إضافة لكونهم أصحاب دين، وتدريجيا انتقل مفهوم "الفساد الأخلاقي" للظل إلى حين، في نفس الوقت الذى راجت فيه تجاراتهم وغسيل أموالهم وأموال التبرعات دون مساءلات إعلامية مركزة، ودون أن يكون لهم وضع سياسي قانوني!


الشاهد يقول إن شيوع الفساد سواء كان بحق أو عبر تضخيم حجمه، كان يمثل مصلحة للإسلاميين، فالإسلامي كان كطبيب لا يرغب في شفاء مريضه، كي يظل يتربح من ورائه، فهو يقتات على فكرة الفساد ويتمركز حولها، ولا يتخيل لنفسه وجودا بدونها، لذلك كان تقديمهم لأنفسهم قبيل الانتشار الإعلامي، يتمحور فى عبارة "نريد أن نُحكم بالإسلام، لا أن نحكُم بالإسلام".. وهى عبارة ثبت كذبها عبر اختبارات الأحداث، فها هم يحرقون كل شيء لأجلها.

وبما أن لا أحد غيرهم يمتلك مشروعا خاليا من الفساد الذي روجوه بحسب تصورهم  "الأخلاقي"، أضف إليه شيوع الفساد "المالي" الذي اقتبسوه على سبيل الاستعارة، فلن يكون هناك حينها بديل للحكم الإسلامي المرغوب سواهم.


لن تجد مثلا تركيزا دعويا لهم حول فكرة "النظافة" فربما لو ألح الإخوان والسلفيون فى خطاباتهم على دفع المصريين نحو إغلاق أكياس قمامتهم بإحكام، وجمعها بأكياس سوداء تسعها، مثلما ألحوا على ترويج عبارات التمتمة، لتم حل مشكلة تراكم القمامة وانتشارها، وتبقى فقط سهولة جمعها كأكياس معدودة مغلقة.. كذلك مشكلات الزيادة السكانية التى كان لهم دور بارز في تفاقمها بدعوتهم الرافضة لتخفيض معدلات الإنجاب ومدح التناسل، لإنهاك الدولة وخلق قاعدة ضخمة ساخطة تابعة لهم.


وبشكل عام تركزت دعوتهم حول مظاهر سطحية، كبعثهم لقضية غطاء رأس المرأة، لإبراز دورهم، دون أن تقدم حلا لمشكلات قائمة، يمكن القول أن الإسلاميين هنا ابتكروا مشكلات وروجوها، وتجاهلوا مشكلات أخرى حقيقية قائمة بالفعل، لكي يتفاقم حجم المشكلات ومن ثم يتضخم مصطلح "الفساد" في أعين الجماهير.


ولكون الطبع يغلب التطبع، فقد تهاوت دعاواهم المفتعلة، فدعاوى الحفاظ على المال العام، انتهت على مذبح حرق وتفجير الممتلكات العامة، والحفاظ على الفقراء انتهى بقتلهم وتفجيرهم في شوارع الوطن، والأطفال بحسب شعارات المستقبل والأمل تم قذفهم من الأدوار العليا، وكبيرهم الذي انتخبوه يهدد الأسرة بحياة أبنائها علنا فى آخر خطاباته الرئاسية، والأمن القومي صاروا يهللون لاستهدافه، وشبكات تزاوج السلطة بالمال مُعدة سلفا من قبل اعتلائهم الحكم.. وأما التبعية للولايات المتحدة التى تحمي الحكام الفاسدين، فقد أصبحت شارة رابعة تُرفع داخل أروقة الخارجية الأمريكية، وأصبح أوباما آخر أمل لإقامة حكم "إسلامي" لهم فى مصر.


وعاد الإسلاميون الآن ثانية بعد إحباط فشل مشروع التمكين، للاحتماء بجيتو حصنهم  الأخير، حيث وهم تفوقهم الأخلاقي.