أهبل واحد في الميكروباص.. "قصة قصيرة"


كتب-أحمد الفخراني:
اشترى نصف كيلو جوافة ثم عبر الطريق إلى غرفته. استيقظ، نام، استيقظ، نام. لا توجد عبارة مؤثرة بين قوسي الاستيقاظ والنوم. حتى اكتشف بعد شهر كامل أنه نسي أن يأكل الجوافة.
حياته يجب أن تتغير؟ قال لنفسه.
استيقظ، نام، استيقظ، نام ، ولم تتغير حياته ولم يأكل الجوافة.
ركب الميكروباص.
نبتت الفكرة في رأسه نبتا شيطانيا، لا بذور، لا ري، لا ادعاء بأن استفادة ما قد تحصل من وراء الفكرة، ثم زعق في الركاب: "أنا أهبل واحد في الميكروباص".
لم يندهش الجمع، بل على العكس، فرمل السائق، صفق الركاب، وهنأوه على شجاعته، وأعاد له السائق أجرته بعد أن قبله من فمه.
ابتسم، حصل على الكرسي المحجوز لأهبل واحد في الميكروباص، مقعد المنتصف في الصف الأخير.
قبل حتى أن يكرر الأمر في ميكروباص آخر كان الخبر قد انتشر في الصحف والفضائيات: "العثور على أهبل واحد في الميكروباص". لم يعرف أحد متى أو كيف انتشر ذلك المقطع على اليوتيوب وهو يدلى باعترافه، مسجلا مليون مشاهدة في أقل من ساعة.
في ميكروباص العودة إلى قوس النوم لم يحتج إلى الاعتراف بل اتجه مباشرة إلى مقعد أهبل واحد في الميكروباص، منعه الركاب "ليس قبل أن نلتقط الصور معك"، خرجت الموبايلات، ليبدأ البلوتوث (إله الوصل عند المصريين) في نقل الصور من موبيل إلى آخر ثم إلى البروفايلات على الفيس بوك (إله النار) في ملحمة لم تنته قبل عام، بينما تصدر قائمة زيوس (جوجل) في البحث.
استيقظ، نام، استيقظ، نام، وبين القوسين انقلبت حياته رأسا على عقب، كان الكل يحافظ عليه كأيقونة من زجاج، لا يجب أن تتحطم، أصبح نجما، استضافته برامج التوك شو، ترقى في العمل، علقت ملصقات بصورته في الميادين، وتطورت صفحة الفان التي انشأها معجبوه من "محبي أهبل واحد فى الميكروباص" إلى "عشاق أهبل واحد ميكروباص"، تعاقد على حملة اعلانية ضخمة لشركة كوكاكولا التي نجحت في احتكاره ولم ينس أكل الجوافة.
لم يكن مطلوبا منه الكثير، سوى الثبات على اعترافه وأن يواصل ركوب الميكروباص، على نفس المقعد، كرمز.
بدأ الأمر منذ عامين، قبل اعترافه.
إشاعة صغيرة انتشرت أن حوادث الميكروباصات، وراءها ركوب رجل أهبل، يرتكب تصرفات حمقاء، ويقول آراء مناقضة لركاب الميكروباص، مع الوقت اتخذت الإشاعة قوة (أقول إشاعة وفقا للرأي الرسمي تحريا للصدق، فأنا كاتب ولا أحب أن أكون أهبل واحد في الميكروباص) ثم تحددت لهذا الرجل ملامح، كأن يطلب إغلاق كاسيت لمطرب شعبي أو داعية سلفي أو يطلب من السائق رفع الصوت، أن يحاول إشعال سيجارة أو يسب طلبا إطفاءها، أن يشعل الفتنة بين الركاب للشجار مع السائق على أي سبب تافه أو ينافق السائق للشجار مع الركاب، أويتدخل في النقاشات بشكل حاد أو يطلب من الجميع الصمت للحصول على ستر الطريق، أو يجادل على الأجرة في حال ركوبه لمسافة قصيرة تتحدى الأجرة الموحدة أو يدفع الفارق من جيبه.. علامات كتلك وأخرى لا مجال لذكرها. حتى تحول الأمر إلى هوس وفأل سيئ مرتبط لدى السائقين والركاب بما يمكن أن يسمى طقوس الطريق.
عندما بدأت الحقيقة اتخاذ هيئة الإشاعة والإشاعة هيئة الحقيقة، كان الركاب بمعاونة السائق يلتقطون الرجل الأهبل بشبهة الظن ويلقونه خارج الميكروباص، ثم حدثت جرائم قتل، اعتدى في بعضها الركاب على الرجل الأهبل، وأخرى قتل فيها الأهبل المكتشف أحد الركاب لرفضه النزول من الميكروباص.
رجل دين أفتى بأن مقارنة ما يحدث بالسفينة التي ألقي منها سيدنا يونس حرام شرعا، فيما خرج التليفزيون الرسمي بحملة مفادها أن المصريين شعب متسامح، وأن نفي الأهبل ليس من شيمهم، وأن وراء تلك العادة قلة لا تمثل الشعب المصري، وانتشرت الإعلانات والأغنيات في تمجيد الوطن ، تحت شعار "مين فينا مش أهبل".
مع الوقت صار الناس يخشون وصمة أن يكون أحدهم هو أهبل واحد في الميكروباص، صاروا أكثر حرصا، ليس بنفي الهبل عنهم ولكن بالتواطؤ على ممارسة هبل جماعي يجنبهم التوقف بالميكروباص وإلقاء المختار.
لكن الأمر تطور -رغما عن الجميع-، فانتشار الهبل جعلهم يركزون على الأكثر هبلا، كان الركاب يتربصون ببعضهم البعض، يتحسسون كل نظرة أو كلمة شاردة، بل يدبرون الخطط لاصطياد أهبل واحد في الميكروباص خاصة مع ازدياد حوادث الميكروباصات.
ظهرت جماعة أكثر تطرفا، نادت بإخصاء أهبل رجل في الميكروباص، وحرق خصيتيه كقربان.
لم يعرف أحد من أين أتت تلك الجماعة، قيل فى البداية إنها جماعة سلفية، حتى كشف صحفي نابه أنها تتبع ديانة سرية، كانت تنتظر ظهور أهبل رجل في الميكروباص، جماعة تدعى "الإيالة" مقرها الرئيسي في كاليفورنيا، تؤمن أنها من نسل بيضة الرخ التي انفقس منها العالم، وقال أحد كهنتهم: إن طوفانا كبيرا سيدلقه الرخ من جردل في السماء ليمحو الميكروباصات، وإنه غاضب، وإن الحل في تقديم بيضان كل أهبل مكتشف ليأكله، فهو يحب المخاصي مشوية.
لم يعلن أحد إيمانه بالديانة خوفا من التكفير، لكن عددا كبيرا من الناس بدأ في تطبيق الفعل خوفا من الغضب المكتوم للرخ أو أيا ما كانت هوية الغاضب.
فبدأت جماعات سرية في التكون فيما يشبه ألتراس الأهلي والزمالك لحماية الوطن من الطوفان (لم يهتما بقصة العالم هذه) لإيقاف الميكروباص،وحرق خصيتي الشخص الأهبل، بعض الجماعات فسرت وفقا لرغبتها أن حرق الخصيتين ليس كافيا، وقامت بحرق الشخص نفسه.
مع الوقت صارت تلك الجماعات مسلحة، وهو ما اضطر الحكومة إلى التفاوض معها بعد حرب عصابات، سقط فيها مئات القتلى من الجانبين والآلاف من المتفرجين، وانتهى الأمر بحصول تلك الجماعات على عشرين في المائة من مقاعد البرلمان وتأسيس حزب سمي "ائتلاف الحب والخبز" مقابل وقف العنف، بعد ضغط الإعلام الرسمي وتشويه صورتهم بأنهم هم أهبل ناس في الميكروباص، لذا يتهمون الآخرين، فقبل ائتلاف "الحب والخبز بالأمر" بالعرض، لأنه لا أحد يريد أن يكون أهبل واحد في الميكروباص، وأعلنوا في بيانهم الأول أنهم راجعوا الأمر، وأن هناك شخصا واحد لم يكتشف بعد، هو أهبل واحد في الميكروباص.
وسبب ذلك البيان بلبلة أكبر، وتقدم عدد كبير ببلاغات للنائب العام، كلها تؤكد معرفتها بأهبل واحد في الميكروباص، اتضح أنها بلاغات كيدية، في الجيران أو فى المديرين في العمل أو زملاء العمل، البعض اضطر لتقديم إقرارات مكتوبة أنه لا يركب الميكروباص أصلا، تشكلت لجنة تقصي حقائق للعثور على أهبل واحد في الميكروباص.
صار الجميع مدانا، ثم عم الصمت أكثر من أسبوع، ولم يعد أحد يتكلم أو يتحرك في الميكروباص، خوفا من الاتهام بأنه أهبل واحد في الميكروباص.
خفت موجة الحوادث قليلا ثم خرج كتاب نفذت أول عشر طبعات له بعد أسبوع من صدوره، بعنوان "عشر طرق لا تصبح بها أهبل رجل في الميكروباص"، ثم رأت الحكومة وحزب "الحب والخبز" أن من المناسب إضافة فصول أخرى للكتاب، وبعد مفاوضات مرنة مع المؤلف ودار النشر، أملي على المؤلف تعاليم دقيقة وتفصيلية لطريقة التصرف في كل شيء، بدءا من الحديث وانتهاء بالنكاح.
نجح الكتاب نجاحا باهرا وتقرر فرضه على المناهج الدراسية.
اتبع الكل طريقة واحدة وفقا للكتاب، لكن الحوادث عادت بقسوة، مائة ميكروباص دفعة واحدة، أكلهم الطريق.. مما فسره الناس بهمس: "هل الرخ غاضب؟".. وكتب الناشطون على تويتر (إله النكح/الفشخ عند المناضلين القدماء): "الرخ يضرب من جديد".
لكن الهمس صار ضجيجا. ثم سرت إشاعة جديدة مفادها ضرورة إعادة اكتشاف الأهبل، ولأن الحيل القديمة لاكتشافه قد استنفذت، قرر الناس دون اتفاق، أن أكثر الأشخاص هبلا في الميكروباص هو من يرتضي بالجلوس في الكرسي الذي ينتصف الصف الأخير بالميكروباص، مساحة لا تجعله حرا ومقيدا لا يستطيع النوم إذا ما فاجأه إلا على كتف راكب آخر، لا يستطيع الحركة دون أن يخبط في راكبين، كما أنه إذا قرر النزول، فإنه يضطر ثلاثة ركاب على الأقل للنزول.
ربما رأى البعض أن الجالس على الكرسي المتحرك بجوار الباب، هو الأكثر هبلا، لكن النسخة الستين من كتاب "عشر طرق لا تصبح بها أهبل واحد فى الميكروباص" والذي أصبح بمثابة دستور غير معلن للبلاد، حسمت الأمر بإضافة فقرة تحدد المقعد الذي ينتصف الصف الأخير مكانا لأهبل واحد في الميكروباص، ربما اعتبر البعض ذلك تحريضا، ربما استنكر أحدهم قائلا: "إيه الهبل ده".
لم يقترب أحد من ذلك المقعد، اعتبروه رمزا وتجسيدا للأهبل المنتظر.
ربما حاول البعض ألاّ يركب الميكروباص أصلا، لكن عبارة "أهبل واحد في الميكروباص" صارت نظرية تطبق في المترو والأتوبيس والمكاتب والعمارات والشوراع وأقرها إلها النار والنكح.
الجنون، الهوس، وشبح الحرب الأهلية خيموا على البلد كمغتصب جاثم فوق جسد فتاة عذراء، لا هي تفلفص ولا هي تملك حق التلذذ، حتى ظهر حسن الذي أعاد البهجة وحقق الخلاص للبلاد بإعلانه أنه "أهبل واحد فى الميكروباص".
لقد أراح الجميع من التهديد المستمر باحتمالية أن يكون أي شخص هو أهبل واحد في الميكروباص حتى يثبت العكس.
لذا لم يحاول أحد إيذاءه أو حرق خصيتيه أو حتى السخرية منه، بل إن أحد رجال الأعمال أمّن على حياته، كان عليه أن يظل أهبل واحد فى الميكروباص حتى لا يكون آخر هو أهبل واحد في الميكروباص.
بالطبع حسن لا يركب كل الميكروباصات، لكن الناس سمت الكرسي الذى ينتصف الصف الأخير باسم كرسي أبو علي، وظل الكرسي فارغا ليذكرهم بأمان أنه "لا أحد منا كذلك".
قضى ظهور حسن على أهمية الكتاب الكبير الذي بدأ ككتيب وانتهى كمجلد من عشرة أجزاء "عشر طرق لا تصبح بها أهبل واحد في الميكروباص" فالناس مع الوقت عادت للتعامل بحرية دون خوف من الإدانة، بل إن أحدهم رقص عاريا على كورنيش النيل دون خوف.
اللطيف أن الرخ كف عن الغضب، وعادت حوادث الميكروباصات لمعدلها الطبيعي.
ساقية الصاوى أعلنت في حفل تكريم خاص للشجاع، "أهبل واحد فى الميكروباص" على أنغام الأغاني الوطنية بالطبع، عن جائزة سنوية، باسم أبو علي، تُمنح للشرفاء في هذا الوطن.
أجاب حسن عن أسئلة الحضور، بخفة دم ملحوظة، كان جوا دمثا لكن سؤالا من فتاة نصف محجبة كهرب الدنيا تماما: "ما الذي يثبت أنك أهبل واحد في الميكروباص"؟ رغم أن السؤال بدا بديهيا إلا أنه قوبل بعاصفة من الاستهجان والصفير والسباب وقال لها مقدم الحفل "أنت نصف محجبة ولا تعرفين شيئا عن الدين؟". ثم غلوشت فقرة غنائية لفرقة "الحب قبل الخبز أحيانا" على صراخ الفتاة وهي تُسحل خارج القاعة.
لكن في اليوم التالي، ادعى أكثر من شخص في أماكن متفرقة من الوطن للفضائيات أنه "أهبل واحد في الميكروباص" وانضم لصفحة "الحقيقة وراء المدعي أهبل واحد في الميكروباص" على الفيس بوك 50 ألف مشترك في اليوم الأول، وتبين أن الفتاة نصف المحجبة هي أدمن الجروب الذي تحول إلى حملة لفضح حقيقة حسن.
وقالت الفتاة في إنفو الجروب: إن حقيقته كلا شيء بين قوسين، لا تثبت أحقيته في لقب أهبل واحد في الميكروباص، فيما أذاعت قناة تليفزيونية عدة حوارات مع سبعة أشخاص يقولون إنهم أهبل واحد في الميكروباص، وإن البعض لديه مستندات تثبت أن حسن شخص عاقل وموزون، بل ربما يكون الشخص الأعقل على الاطلاق.
روج البعض أن حسن مجرد لعبة في يد الحكومة بينما قال آخرون: إنه وسيلة حزب "الحب والخبز" لاستلاب الحكم.
فيما خرجت نظرية ثالثة مفادها أن ما حدث مع أبو علي في ليلة ساقية الصاوي هي خطة مدبرة شاركت فيها الحكومة وحزب "الحب والخبز"، لتشويه صورته، لإعادة الهيبة لدستور البلاد غير المعلن "عشر طرق لا تصبح بها أهبل واحد في الميكروباص"، الذي حقق الاستقرار للوطن باتباع الجميع لتعاليمه، مع الوقت نسبت النظرية إلى الحكومة تسببها في حوادث الميكروباصات من البداية، وإشاعة أن راكبا أهبل دائما وراء موت باقي الركاب.
لكن حسن الذي تحولت حياته إلى مسافة عامرة بين قوسين كان على استعداد للقتل، للذبح "حرفيا" لو استلزم الأمر لإثبات انه أهبل واحد في الميكروباص (وفقا لمحضر النيابة الرسمي).
وذات صباح وجدت رأس الفتاة المحجبة مفصولة عن جسدها وأثبت الطب الشرعي أنها اغتُصبت بعد الذبح لا قبله، بينما كتبت تلك العبارة على فخذها "الأول" تيمنا بفيلم أمير الانتقام.
حسن اختفى.
تحدثت والدته وأقاربه،عن طيبته البالغة، وأنه كان مسالما وهشا وضعيفا، وأنه ضحية مجتمع، فيما تحدث آخرون عن فوبيا الشهرة، فيما أدليت بشهادات تثبت أنه جاسوس ينفذ أجندة خارجية.
لكن حسن "ضرب من جديد".
هكذا كتب الناشطون على جسد إله النكح، عندما قتل السبعة أشخاص الذين قالوا إنهم أهبل واحد في الميكروباص، تلك المرة لم يستعِر حسن "وفق المحضر الرسمي" قصة أمير الانتقام، بل رسم طائر الرخ على جثث السبعة.
طرق القتل كانت بشعة وانتقامية، شخص ما مجهول الهوية قال إن حسن قتل صبيحة يوم الساقية، وإن جرائم القتل كانت لإخفاء تورط الحكومة وحزب"الحب والخبز"، في الخطة المدبرة لتشويهه.
فيما شكك البعض في القتل، قائلين إنه اختطف، لكن "عشاق أهبل رجل في الميكروباص" كتبوا على صفحتهم أنه لم يقتل، ولم يختطف، بل صعد إلى الرخ، وأنه سيعود يوما ليخلص العالم، أما كرسيه.. فظل فارغا في الميكروباص.