"بجماليون".. فلسفة الفن والحياة بين الحكيم وبرنارد شو


كتب- محب جميل:
منذ البداية أدرك توفيق الحكيم أثر الدراما الإغريقية في حركة الأدب، حيث الحكمة منبع المعرفة، والجمال تاج الروح، لكن توفيق الحكيم عندما ذهب إلى بجماليون، هذا النحَّات البائس، وبعثر أوراقه، كان يفتشُ ربما عن إشكالية الفن أم الحياة؟
تأثر الحكيم بيوربيديس في فنه وفلسفته، وكان هذا الأخير أكثرهم تهكمًّا على الآلهة الوثنية، ينزلها من عليائها ويعنّفها ويعاملها معاملة البشر، لقد نسب الحكيم مسرحيته "بجماليون" إلى المسرح الذهني، وعلى الجانب الآخر، كانت رحلة الفيلسوف الأيرلندي برنارد شو مع بجماليون تأخذ منحى آخر، فقد آمن شو بمبدأ الفن للحياة، وليس الفن للفن.
في مسرحية توفيق الحكيم، تمنى بجماليون أن يتحول هذا التمثال الحجري لامرأة غاية في الجمال كي يتزوجها، وعندما ابتهل إلى فينوس إلهة الجمال وتم له ما أراد، لم يتوقع بجماليون النحَّات البائس أن تتحول زوجته "جالاتيا" الرقيقة إلى امرأة تلهو مع نرسيس في الحقول الشاسعة، وتتكوّن تجاعيد وجهها بمرور الوقت.
لم يدرك بجماليون قسوة الزمن، والذي بدأ في حفر تجاعيده على وجهها ورحل، أيهما يدوم الجمال أم القبح؟ أين المُثل العليا والفضائل التي كان يؤويها التمثال؟ كل هذه الأسئلة كانت نقمة على رأس بجماليون، تحدى ذاته، عاندها، ولم يدرك حقيقة أن تمشي بقدميك على الأرض، بدلاً من أن تحلق بأجنحةٍ شمعية في سماء لزجة.
أما برنارد شو فقد كان له مدخل آخر، ضمت مسرحيته ثلاث شخصياتٍ رئيسية، هي العالم الأرستقراطي هنري هينجز، وصديقه الكولونيل بيكرنج، والفتاة الزا، وتبدأ المسرحية حيث يتراهن العالم مع صديقه أن يجري بعض التجارب العلمية على الفتاة الفقيرة بائعة الزهور في الشارع، ليحولها إلى سيدة أنيقة، تتحدث برقة، وتأخذ مِشية الأميرات.
ومع مرور الوقت بدأ في تنفيذ رهانه، وبالفعل كانت الفتاة تبدي استعدادًا واضحًا للتعلم، وتحسنا في مستواها الفكري والاجتماعي بذهابها إلى الحفلات المختلفة، كان يبدو عليها مظهر الرقي والبرجوازية، انتبهت في النهاية إلى أن كلا الرجلين لا يقيمان لها وزنًا أو مكانة مرموقة، فقررت التمرد، أية حياة تصلحُ لفتاةٍ يعاندها هاجس المادية؟ تقول في قرار نفسها هل أصبحتُ مجرد دميَّة يتداولها الجميع، هل أنا مجرد مادة تجارب علمية؟
لم تفلح محاولات الزا ووالدته في ردعه، فتقرر الزا الانتقام، تخبره أنها ستتزوج من صديقه فريدي؛ ذلك الشاب الذي يطاردها منذ سنواتٍ، وتتحداه في عمله، حيث تقرر أن تصبح عالمة صوتيات، وتترك زهورها تذبلُ على الأرض، وكان تأثر توفيق الحكيم بالأسطورة الإغريقية، تأثرًا مباشرًا، ذكر أنه شاهد فيلمًا عن بجماليون في القاهرة، بعد أن تعلقت عيناه بلوحةٍ شاهدها في باريس للفنان "جان راوكس".
وقال الحكيم في مقدمة المسرحية "قصة بجماليون هذه تقوم على الأسطورة الإغريقية المعروفة، ولعل أول من كشف لي عن جمالها تلك اللوحة الزيتية (بجماليون) و(جالاتيا) بريشة (جان راوكس)، المعروضة في متحف اللوفر، وكدت أنسى قصة اليونان، حتى ذكرني بها بيرنارد شو يوم عرضت مسرحيته بجماليون في شريط من أشرطة السينما، وأنا أعلم أن هذه الأسطورة قد استخدمت في كل فروع الفن على التقليد، ولا بد أنها أفرغت في مسرحيات عدّه، فيما أعتقد وإن كنت لا أعرف غير قصة الكاتب الأيرلندي".
حاول الحكيم أن يعالج إشكالية الفن والحياة، أن يترك الصراع قائمًا بينهما دون تحديد من سيحسم الصراع لصالحه في النهاية، كان يتساءل في سره هل الجمال في حدّ ذاته غاية؟ أم أن هذا الجمال لابد أن يتحول مادة ملموسة لها قيمة نفعية؟ هل يجب على كلٍ منّا أن يحاكي نصّه دون أن يخضعه إلى القوانين الأرضية؟ فالفن هنا يجب أن يُعامل معاملة خاصة دون أن يقترب من الزيف والراديكالية.
عالم توفيق الحكيم هو نواةٌ مصغرةٌ للفنان الباحث عن حكمة الجمال والوجود، أما برنارد شو كان يبحثُ في إطار نفعي اشتراكي تتضافر خلاله أدوات العالم وتجاربه ومدى نفعها وقيمتها في المجتمع ككل، بالرغم من أن مصدر الأسطورة واحد، إلا أن الإطار الذي نُسجتْ فيه كل منهما مختلف.
توفيق الحكيم يُمكنك تخيله فنانًا يقبضُ على ريشته، يريد تغير العالم من خلال بالتة ألوانٍ مع إضافة بعض الفلسفة والحكمة، أما برنارد شو أكثر واقعية يلعبُ على التفاوت الطبقي والبعد الأنثروبلوجي للشخصية النسائية.
وقال الناقد الدكتور محمد مندور عن مسرحية برنارد شو "فهاهو برنارد شو يكتب بجماليون، ويبلغ حرصه على الحياة ألا يتصور تمثالاً من العاج أو المرمر، بل فتاة حية من لحم ودم، بائعة زهور لم تكن حياتها شيئًا قبل أن تعثر بها بجماليون، أية حياة تملأ المسرحية؟ وأية إنسانية تجري في نواحيها؟ أي تميز للشخصيات؟ وأية حركة في المواقف والأوضاع؟ ثم أية وحدة في البناء؟".
لكن الدكتور مندور يرى أن موقف الحكيم كان مختلفا حيث اتجه بشكل واضح نحو الأسطورة، حيث يقول: "وهذا اتجاه يبشر بالخير خليق بأن يجدد حياتنا، ولكن على شرط أن يكون إنسانيًا عميقا وجميلاً، وأما إذا أخذنا بالقشور والهياكل تاركين اللباب والمعاني الدفينة، فسنفقد أصالتنا دون أن نستعيض عنها بأصالة أخرى"، إنها رحلة البحث عن الكمال بالرغم من نواقص الأمور، تجريد الحياة من مفاهيمها المادية بهدف الوصول إلى الجمالية منها.
في لحظة مواتية يصيحُ بجماليون "يا سكان أولمب، في إمكانكم أن تعجنوا ذلك المزيج من الجمال والقبح والنبل والسخف والارتفاع والابتذال وتسّموا ذلك الحياة، ولكنكم لن تستطيعوا أبدا أن تصنعوا مثلي ذلك الشيء المقّطر المصّفى الذي يسمى الفن، نعم، الفن هو قوّتي أنا البشري الفاني، سلاحكم الحياة وسلاحي الفن"، بالرغم من أن المرأة هي محور هذا العمل، وهي التي تقود فلسفته الحقيقية، إلا أنها ظلت مصدر حيرة وشقاء للشخصيتين سواء الفنان أو العالم.