التوقيت السبت، 07 يونيو 2025
التوقيت 08:54 م , بتوقيت القاهرة

كيف تعبد "الشيطان" في مصر بطريقة صحيحة؟

في فندق صغير "ثلاث نجوم" في وسط البلد، قام بعض الشباب بحضور حفل لموسيقى "الهافي ميتل"، يمارسون فيه المجون والجنس الجماعي وعبادة الشيطان، هذا العنوان ذو الرنين الدرامي يروق لبعض القراء المصريين، وخصوصا في هذه الأيام التي انتشر فيها أساطير عن مؤمرات ماسونية ومخطط لتقسيم مصر..إلخ، تزامن ذلك مع حفلة قام بها مطرب الميتل الشهير "نادر صادق" بحفلة في ساقية الصاوي، بمشاركة فرق ميتل أجنبية وعربية.


كما انطلقت صفحة على موقع التواصل الاجتماعي "فيس بوك"، اسمها "اسأل الشيطان" لتزيد من تلك الأجواء الدرامية القاتمة بأن عملية تخريب عقول تجري على قدم وساق على الشباب المصري.


الواقع أن هذه الأجواء ليست غريبة على مصر، فمنذ أكثر من عشرين عاما تحديدا في العام 1994، قامت هوجة إعلامية وقتها على نفس الشيء، شباب يحضر حفلات "ميتل" ويمارسون المجون والفواحش ويقتلون القطط السوداء، ويشعلون النيران، ويزدرون الأديان وقد ألهبت هذة القضية الخيال المصري، وصار كل شخص يربي شعرة من عبدة الشيطان، وكانت الكلمة تقال في الشارع ببساطة شديدة، وكأن المجتمع كله فجأة صار يعرف ماذا يعني تحديدا عبادة الشيطان.


وبدا أن الإعلام كعادته، يستغل الضعف الثقافي المنتشر في المجتمع المصري وحالة كراهية الآخر المتأصلة في جذور العقلية المصرية، لتشعل المسألة وتصنع قضية اجتماعية تلعب فيها على شغل الرأي العام المشوش. 

هل حقا سماع موسيقى الميتل، وتلك العروض المسرحية الأقرب لما نراه في أفلام الرعب، تستحضر أمير الظلام حقًا لتسترضيه وتقترب منه زلفًا؟ هل أنا كعربي مسلم ستؤثر في أو سأؤمن بأن رسم الصليب مقلوب يعتبر تجديفًا؟ وهل سيثر خوفي رقم "666"، أو رقم الوحش كما يطلق عليه في الثقافة الغربية الكاثوليكية؟ ونفس الشيء يقال عن علامات مثل "البنتاجرام" أو رسم للشيطان "بهيموث"، وكل تلك الرموز المنتمية إلى الكاثوليكية الغربية ولا يفترض أن تؤثر في كمسلم بأي حال؟. 



يمارس الشباب، منذ عام 1994، نوع من أنواع الثقافة المضادة، والتمرد على القيود وآليات المجتمع الخامد التي يرون فيها تخلف ورجعية، فأخذوا يبحثون عن التحرر من ثقافة المؤسسة، فكان سماع موسيقى الميتل، أحد أنواع الهروب من واقع يتراجع إلى الوراء يوما بعد يوم، ارتداء الأسود وسماع موسيقى الميتل ورسم الوشم ورسم الصليب مقلوب، هو نوع من التمرد الاجتماعي، يخالطة رؤية عولمية متدثرة بثقافة الغرب الناعمة المسيطرة علينا. 



الشيطان كشكل له وضع مختلف باختلاف الثقافات، وبعض المعتقدات لاتعترف بوجوده من الأصل، مثل البوذية والشينوتية، وأيضا البهائية والتي تنكر حتى وجود الجحيم.. وبالنسبة لنا كعرب فالشيطان له وضع مختلف عن التصور الغربي، واستحضاره بالتأكيد لن يتم عن طريق لبس الأسود أو قلب الصليب، كما أن شكل الشيطان في التصور الإسلامي له شكل مخالف تماماُ.


فالشيطان ليس له نفس القدرات الموجودة في التصور المسيحي، فهو ليس أمير هذا العالم، وبالتأكيد لا يصلح رسمه بقرون ورجل ماعز، بل أن الشيطان في التصور العربي له منظر جميل ويرتدي ملابس ملونة، وله مطايه كثيرة مثل النعام والأفاعي، كما أن جدلية هل كان إبليس ملاك أم من الجن اختلف فيه المفسرون وخصوصا في الآية القرآنية من سورة الكهف "وإذا قلنا للملائكة أسجدوا لآدم فسجدوا إلا أبليس كان من الجن".

 في حين يرى المعتقد الكاثوليكي الغربي أنه ملاك ساقط، وهناك أساطير عربية تقول أن الله أرسله إلى الأرض عندما كان الجن يعمرونها وأفسدوا فيها ليكون قاضي بينهم، فاستطاع أن يحكم بينهم بالعدل والحق لمدة ألف سنة فسمى الحكم، قبل أن يتعظم ويتكبر . أما ألقابه واسمائه عند العرب،  فبحسب د. محمد عجينة في كتابه "معجم أساطير العرب" هي (أبو الجان، و الشيطان ، وأبو مرة، و أبو حارث، وعزازيل، وسوميا، ونائل، أبو كدوس).


كما أن إبليس في التصور الإسلامي لم يكن مزدوج الجنس كما في التصور المسيحي، بل هو أحادي الجنس ونسله تم بالتزاوج، وهناك إلتباس تجاه زوجتة فالتصور الفلكلوري العربي يرى أن زوجته هي الحية ولكن هذا تصور أسطوري لا يوجد دليل ديني عليه بالطبع. 



من الناحية التاريخية، يرى الباحث فراس السواح في كتابه "الرحمن والشيطان"، أن أول تعريف كوني للشيطان جاء من المصريين القدماء على شكل الإله "ست" وأن الصراع بين أوزوريس ومن بعده حورس مع ست، يمثل أول ثنائية كونبية في الصراع بين الخير والشر، كما أن أول عبادة شيطان في التاريخ، حدثت أيضاٌ في مصر، بمجموعات صغيرة كونت دين سري غامض قائم على عبادة "ست".


 ثم تطور بعد ذلك مع الحضارات السامية مثل الفارسية وحضارات ما بين النهرين، ليأخذ مكانا متميزا في الديانة الزردشتية، قبل أن يتحول مع الديانة المناوية إلى أول وأكبر تصور له، حيث وضعته الديانة المانوية في تصور أيقوني، ظل يؤثر على الوعي الجمعي والمعتقد الشعبي حول العالم إلى لحظتنا هذه، حيث يوجد بعض التصورات في المعتقد الشعبي حول العالم عن إبليس، تعود جذورها للمانوية.

ونستطيع القول أن المناوية هي أول من أظهر احتراما وتبجيلا للشيطان وجعل أهميته تساوي في الأهمية "الله سبحانه وتعالى"، وأن وجوده في العالم ضروري لأنه هو من يجعلنا ندرك الفرق بين الخير والشر، وهذة الثنائية التي أسست لها المانوية ستظل راسخة في المخيلة الأدبية والفلكلورية والفنية ودراسات الأديان.


وكما قال الأديب عباس محممود العقاد في كتابه "إبليس" : " فقد كانت معرفة الشيطان فاتحة التميز بين الخير والشر، ولم يكن بين الخير والشر من تمييز قبل أن يعرف الشيطان بصفاته وأعماله، وضروب قدرته، وخفايا مقاصده، ونياته"، وعندما جاءت اليهودية والمسيحية ثم الإسلام، اتضحت صورة الشيطان عدوا مبينا لنا، ويوسوس لنا بسوء الأعمال، ويزين لنا المعاصي.


 


ولا يوجد ديانة لها أساس قائم على عبادة الشيطان في العالم العربي، اللهم الديانة اليازيدية التي يرى الباحثون أنها تعبد الشيطان متخذًا هيئة "طاووس ملك" الذي رفض أن يسجد لآدم وبهذا فاز في الامتحان الذي أجراه الله سبحانه للملائكة ، لأن ليس من المفروض أن يسجد أي مخلوق الا لله. 



أم بالنسبة للحالات الفردية، عن من عبد الشيطان صراحة في العالم العربي، فيحمل التاريخ أمثلة قليلة جدا مثل الشاعر العباسي بشار بن برد، الذي كان له بيت شعر شهير يقول فيه: "إبليس أفضل من أبيكم آدم- فتبصروا يا معشر الفجار ، النار عنصره وآدم طينة- والطين لا يسمو سمو النار".



في العالم المادي الحديث تكاد لا يوجد ما يسمى "عبادة الشيطان"؛ فكل الأحصائيات تشير إلى أن من يعبدون الشيطان لايتجاوز عددهم " 30.000 " في العالم كله، نتكلم عن عبادة الشيطان وليس الملحدون والمتشككون، وحتى أشهر عباد الشيطان في العالم، وهم المنتمون لكنيسة الشيطان في نيويورك، والتي أسسها أنطون ليفي، لم يعدوا يعبدون الشيطان بشكل فعلي، فقد جاء على لسان كاهنهم الأعظم الحالي، الماجوس "بيتر جالمور" : "يظن الناس أننا نمارس ذبح الأطفال والقطط السوداء في كنيستنا، الواقع أن هذا لايحدث، في الواقع نحن لانعبد الشيطان بالشكل الكلاسيكي المتعارف عليه، بل أننا ننتمى أكثر للفكر العلمي مع خليط من معتقد الثيلما الذي أسسه لافي".


وحتى فرق السحر المعاصر مثل "البجان" لا يؤمنون بالشيطان، ويرون أنها خرافة مسيحية، وأنما يؤمنون بالطبيعة حولنا ويستمدون قوتهم منها، وترى أحدى الساحرات المعاصرات أن "الشيطان يمثل الهيمنة الذكورية"، وهن لم يعد يخضعن له، بل يستمدن قوتهن من الأم الكبرى، الأرض، الإله الأنثى الحقيقة.



وبهذا نرى أن حتى في الغرب فإن عبادة الشيطان ليست موجودة بشكل كبير، فقط الميديا والأفلام والأدب أعطوها أكبر من حجمها الأصلي، وأن عبادة الشيطان الأصلية لا تتعدى رقم ضئيل جدا في العالم، لأن بالسليقة عابد الشيطان كفر كفرأ عظيما لأنه يؤمن بالله سبحانه ويؤمن بجناته ونعيمه، ولكنه اختار أن يعبد الشيطان دونه، وأن يدخل جهنم معه، وهو في هذا عكس الملحد الذي لا يؤمن بوجود الله ومن ثم الشيطان أيضا، فلماذا نظن أن من يسمع موسيقى "الميتل" يعبد الشيطان؟ مع العلم أن موسيقى "الميتل" لها ملايين المعجبين حول العالم؟.  



لبس الأسود لا يعني التقرب من الشيطان أو الجن أو العفريت، بل هو ببساطة نوع من الموضة وقد يكون انعكاس لحالتك النفسية والمزاجية، نفس الشيء يقال على رسم الوشم أو الذوق الموسيقي أو طريقة رؤيتك للعالم عموما، سماع موسيقى الميتل ليست موصوفة لعبادة الشيطان، بل هي حالة مزاجية يستحضرها مؤلف الأغنية سواء كانت تدعو للتمرد أو تناقش الأساطير أو المثيولوجيا، ذوقك الموسيقى يعبر عن حالتك ليس أكثر، فقد تكون ميال لسماع الموسيقى الحزينة أو السعيدة، قد تميل لسماع الأغاني الهادئة أو الأغاني ذات الإيقاع الاصاخب.


موسيقى الميتل ليست أكثر من حالة مزاجية موسيقية، قد يسمعها الشباب للهروب من الواقع للتمرد على القيود والمجتمع أو تكوين حالة اجتماعية معينة، أو كتنفيس وتفريغ لطاقت السلبية، وكلنا نبحث عن طرق لإفراغ طاقتنا السلبية أو الانفعالية. 


إضافة: ضعف وندرة الدراسات والمؤلفات حول الأديان المقارنة أو المخلوقات الخارقة مثل الشيطان في المكتبة العربية، فتح الباب لتأؤيلات مغلوطة ورؤية مشوشة لحالات اجتماعية تستحق الدراسة والانتباه، وصار من السهل أن تتهم الشباب بأي اتهام، وخصوصا أن ثقافة الشباب صارت مسار للنقد في مصر بعد ثورة يناير 2011، بدلًا من أن تدرس الدوافع النفسية والاجتماعية للجوء الشباب لتلك الحفلات وذلك النوع من الموسيقى.


صار من السهل أن تتهم الآخر بعبادة الشيطان بسبب هبوط عام في مستوى الثقافة في مصر، بل ولقد دخلت الكلمة في السياسة وصار يوصف من يخالفونك الرأي بالشيطان الأعظم، وهي كلمة مضحكة تنم عن جهل مطبق، ومغني مثل "هاني شاكر" ذو رؤية سطحية جدًا، وتنقصه ثقافة تاريخ الأديان أو علم الأديان، يتكلم بنفس النبرة السطحية التي يتكلمها الجهل في هذه الأمور، فبمجرد أن شاهد ديكورات مرعبة أو بعض شباب يلبسون الأسود يرقصون على موسيقى عالية صاخبة، اندفع بقول أن الشباب يعبدون الشيطان، وأن هذا جزء من مخطط ماسوني لبلبلة الشباب. وهو كلام ينقصه رؤية ثقافية واجتماعية جادة.


اقرأ أيضا