فرانشيسكو جويا.. سيرة الدم والرعب والجمال


"دائما يتحدث الأساتذة عن الخطوط والألوان، ولكني لا أرى في الطبيعة لا خطوطا ولا ألوانَ وإنما أرى أضواءً وظلالا فقط".. فرانشيسكو جويا
"لا نستطيع أن نتخيل كم هي الحرب مخيفة، مرعبة، وكيف تصبح شيئا عاديا، لا نستطيع أن نفهم، لا نستطيع أن نتخيل".. سوزان سونتاج
البدايات والتكوين
فرانشيسكو جويا واحد من أشهر الرسامين الإسبان، وأحد الأساتذة الأوائل لفن الرسم الحديث، تتسم رسوماته بحركات الفرشاة الحرة والألوان الرائعة الثرية، ما يجعله رائد الحركة الانطباعية التي ظهرت في أوائل القرن التاسع عشر، حيث صور في لوحاته الكوارث وفظائع الحرب، كما رسم صوراً أخرى مليئة بالخيال والإثارة والرعب، لم تخفف منها سوى لمساته الفنية الرائعة وملاحظاته الواقعية.
ولد جويا عام 1746 بمدينة صغيرة بمقاطعة آراجون لأبوين بسيطين يعملان بفلاحة الأرض، فكان يعمل هو وأخوته معهما في الحقل كسائر الفلاحين الإسبان. مع هذا ظهرت مواهبه الفنية في وقت مبكر، حيث كان يرسم بالفحم المتبقي من فروع الأشجار المحترقة على الحوائط و الأحجار.
في سن الـ14 من عمره ومع انتقال عائلته إلى "سراقسطة"، بدأ دراسة الفن على أيدى العديد من فناني المدينة، قبل أن ينتقل إلى "مدريد"، ويتدرّب على يد أحد رسامي البلاط الملكي الإسباني، ثم يحاول الدخول لأكاديمية الفنون فى مدريد ولكنه فشل.
في الوقت نفسه، حصل على منحة لدراسة الفن في إيطاليا، فرحل إلى روما وعمل في رسم الفسيفساء للكنائس، واشترك في العديد من المسابقات الفنية. ثم انتقل إلى فرنسا وأقام بضع سنوات فيها، حيث وقع تحت تأثير أفكار كبار مفكري عصر التنوير الفرنسيين، أمثال جان جاك روسو ومونتسكيو.
درس الرسم كذلك مع الرسام الإسباني فرانشيسكو بايو، الذي تزوج أخته عام 1773، وفي هذه الفترة طور جويا أسلوبه في الرسم الذي تميز به فيما بعد. كان زواجه خطوة مهمة في مسيرته الفنية، إذ تمكن من الإقامة في العاصمة، معتمدا على مساعدة شقيق زوجته. وما بين عامي 1775 و1792، اشتهر برسوماته الكاريكاتورية لمصنع السجاد الملكي في مدريد، حيث كرَّس طريقته في رسم مشاهد من الحياة اليومية، التي ساعدته في أن يصبح مراقبا حادا للطباع الإنسانية. تأثر بالفن الكلاسيكي، خاصة بأسلوب وأعمال الفنان الإسباني الشهير فيلاسكويز.
بعد ذلك، أصبح الرسام الأشهر للأرستقراطية الإسبانية، وانتخب عام 1780 عضوًا في الأكاديمية الملكية، قبل أن يسميه الملك "رساما" في العام 1786 ورساما للبلاط في العام 1789. في خريف عام 1792 خرج جويا في رحلة إلى "قادش"، أصيب خلالها بمرض ظلّ يعاني منه لعدة أشهر، وعندما شفي منه جزئيا، ظل أصما لبقية حياته، وأثر ذلك عليه وعلى أسلوبه، ومن ثم أنتج لوحات ذات طابع كئيب وقاتم، تجلّت في سلسلة رسومات نقدية وحادة بلمسة واقعية مضافة للرسم الديني الكلاسيكي، عرفت باسم "كابريشوس "Caprichos.
ما بين عامي 1795 و1799، عُيِّن سكرتيرا للأكاديمية الملكية. وفي عام 1799 وتحت رعاية تشارل الرابع، عيِّن رساما أول في البلاط الملكي الإسباني، وأصبح الفنان الأنجح والأكثر عصرية في إسبانيا؛ ورسم لوحته المشهورة "عائلة تشارل الرابع" عام 1800.
الغزو.. الحرب.. الاستقلال
دخلت إسبانيا مع بدايات القرن التاسع عشر مرحلة من الاضطرابات والحروب والعنف والمجاعات، بعد تعرضها لغزو فرنسي عام 1808، إذ نجحت خطط نابليون بونابرت، الطامح للسيطرة على أوروبا، في الإطاحة بحكم شارل الرابع، وتتويج فرديناند السابع مكان والده، ثم خلعه عن العرش، ونفى شارل الرابع وفرديناند السابع إلى إيطاليا وفرنسا، وتم تنصيب أخيه جوزيف ملكا على إسبانيا.
وكان جويا مثل الكثيرين من معاصريه المفكرين والفنانين الأوروبيين - ورغم كونه الرسام الأول للبلاط الملكي - متأثرا بالثورة الفرنسية وبمبادئها الإنسانية، ما جعله يرحب -أول الأمر- بغزو قوات نابليون لبلاده، ويصبح رسامًا للبلاط الفرنسي حتى العام 1814. وأمام ما كان يشاهده من مآس وشجاعة الإسبان في كفاحهم ضد المحتل الفرنسي، تحوّل جويا فكرياً وانعكس ذلك التحوّل في العديد من أجمل لوحاته التي صورت الحرب الاسبانية من أجل الاستقلال وفظائعها، وفيها لم يعمل على تجميل الرعب أو تقديم مشاهد بطولية للحرب، بل سلّط الضوء على تساوي القسوة والشراسة لدى الطرفين، مع انفلات العنف والوحشية من عقالهم، ونسيان القيم الانسانية أمام الجرائم الوحشية و أهوال الحروب.
ومن أشهر أعمال تلك الفترة، سلسلة النقش الثانية والثمانين "كوارث الحرب" (1810 إلى 1820)، التي رسمها احتجاجًا على حالة العنف الشديدة، التي صاحبت أحداث 2 مايو 1808، عندما اجتاح نابليون مدينة مدريد واحتلها، ما أدى إلى قتل العديد من أهالي المدينة دفاعا عن مدينتهم.
وثّق جويا هذه الأحداث الدموية في لوحتين هما "الثانى من مايو" و"الثالث من مايو"، فى اللوحة الأولى يصوّر الثورة في المدينة وفي الثانية يصوّر قيام القوات الفرنسية بإعدام الثوار. واتبع في تصويره لهاتين اللوحتين أسلوبه العاطفي الرومانتيكى الجديد، الذي يهتم بالأحداث الواقعية، ويعبر عنها بطريقة مأساوية.
مجون ومحاكم تفتيش ونهاية حزينة
عرف جويا بمجونه واستهتاره، ومن المواقف الطريفة أنه حين رُحّل جويا إلى أشبيلية – في زمن الاحتلال الفرنسي - قام بعمل الرسوم والزخارف في كاتدرائيتها، وصوّر بين الملائكة سيدتين شهيرتين من سيدات المجتمع عرفتا بالخلاعة.
ورغم أنه كان الفنان الأول في البلاط الملكي، إلا أنه كان يرسم لوحات لأفراد الشعب العاديين، وأتاحت له تلك الخبرة الحياتية الكبيرة كمّا هائلا من التفاصيل ليضعها في لوحاته. وخالط نماذج عديدة من طبقات الشعب الإسباني من شباب محروم وغجر منطلقين، وغانيات عابثات، وصولا إلى أمراء الأسرة المالكة وحاشيتها الأرستقراطية، ليكتشف الانحلال الاخلاقي المتستر وراء مظاهر الجلال والوقار المصطنع.
شارك في حفلاتهم وأعيادهم و أفراحهم، وعندما صوّرهم أبرز خلاعتهم ودماثتهم ووجوههم المنتفخة وخدودهم المتوّردة، لكن العجيب في الأمر أنه بقدر غلوه في هجائه لهؤلاء السادة، كانوا يغدقون عليه الثناء والعطاء.
حين عادت الملكية من جديد إلى إسبانيا، بعد خروج الفرنسيين، سامحه الملك الجديد وأعاده من جديد رساما للبلاط. لكن خلال تلك الفترة اصطدم بمحاكم التفتيش التي لاحقته، بسبب لوحة مبكرة لإحدى سيدات المجتمع الأرستقراطي، التي تدعى "مايا"، قيل إنها كانت على علاقة بالرسام. اللوحة الأشهر" مايا العارية The Naked Maja" تسببت في استدعائه للتحقيق عام 1815، ما اضطره لإخفائها ورسمها من جديد بعد أن ألبسها!
خلال تلك الفترة الأخيرة من حياته في إسبانيا، تميَّز غويا بمواقفه التحررية وبمعارضته للمفاهيم والأساليب الرجعية في حكم إسبانيا، مما انعكس على رسوماته. زادت تلك الروح المُقبضة الكئيبة في أعماله بعدما استسلم للصمم ولوساوسه، فرسم "اللوحات السوداء" على جدران منزله، وهي عبارة عن 10 لوحات تتمحور حول الساحرات والأشباح والشياطين والنسوة العجائز اللواتي نهشهن الزمن، أعمال فنية تشكل شهادة عميقة على فترة حالكة في تاريخ إسبانيا وأوروبا، فترة محاكم التفتيش والغزو الأجنبي وعودة الملكية من جديد.
وتعتبر تلك اللوحات مصدر إلهام للعديد من الرسامين المعاصرين، أهمهم بيورو فاليخو، الذي استخدم أعمال جويا وأحداث حياته، لمعارضة الديكتاتور فرانكو وقت حكمه لإسبانيا.
بعد ذلك استقر جويا في بوردو بفرنسا في عام 1824، حيث التقى بشباب الفنانين، الذين تعلموا منه، حتى عاد إلى أسبانيا عام 1826، واستقال من وظيفته كرسام ملكي، وسافر مرة أخرى إلى باريس حيث رسم لوحة يمثل أسلوبها مقدمة للأسلوب "التأثيري" في فن الرسم، و لكنه لم يتابع هذا الأسلوب، إذ توفي قبل أن يتم رسم لوحته التالية في 16 أبريل عام 1828.
ومما لا يمكن إنكاره، أن وجود تيمات سياسية وشخصية في أعماله، جعله يمر بفترات متفاوتة من النجاح الكبير والإهمال التام، إلى أن انتهى به الحال من أشهر رسامي إسبانيا، إلى فنان منبوذ في نهاية حياته.