فوبيا الخنزير
صديقان، أحدهما عربيٌ مسلمٌ والآخر ألمانيٌ عصيٌ على التصنيف، يجلسان على مائدة إحدى المقاهي التي توحي للزائر بأن كلى الألمان تعمل بالجعة عوضا عن الماء، حينما فوجئ أخونا العربستاني بأن الطبق الذي بدا له نباتيا في قائمة الطعام يحتوي على قطعٍ من لحم الخنزير المتكومة في أحد جوانبه.
ارتاع الضيف القادم من بلاد المناسف والكبسات الحلال، وارتعشت أوصاله كما لو أن الله سينشر الخنزير الميت ليقوم دابكا بحوافره على الطاولة.
لقد رفض أن يلمس بشوكته الطاهرة طبق النجاسة ذلك، وأقسم بأغلظ الأيمان غير القابلة للترجمة بأنه لن يأكل شيئا منه، كما لم يغفل عن تحذير صديقه الألماني من أن هذا اللحم هو السبب في انعدام غيرته على أخته التي تقرر مصيرها بنفسها-والعياذ بالله- مستشهدا في ذلك بالبحوث الموثوقة التي لا يصدّقها غيرنا، والصادرة من أرقى الجامعات الغربية التي لم يسمع بها سوانا.
ما علينا.
ومع أن نسبة التقى المتدنية في دمه لم تسمح له بأن يفهم هذا المشهد التراجيدي، احترم الألماني الخصوصية الدينية لرفيقه، وبادر متطوعا لأن يزيل قطع اللحم ويلتهمها، فيترك بذلك السلطة لصاحبه الذي تقمّص على حين غرةٍ دور الأرنب متناسيا "مجازر" الملوخية في بلاده.
ولم يتزعزع العربي عن موقفه الرافض للطبق المُحرّم رغم أن القبول بالتطبيع نفسه أصبح يتطلّب قدرا أقل من المفاوضات والمماطلة، لترتسم علامة استفهامٍ محرجةٌ ومرتبكةٌ على وجه المستضيف، ويتحمّل بسبب ذلك الخنزير المقلي ذنبا أثقل من تأنيب ضميره الآري على أفران هتلر.
إن هذا الهلع الذي نقاسيه حينما نصطدم بالآخر بثقافته ودينه وعاداته لم يُولد من العدم، ولا حتى ذلك الذي يؤمن به صاحبنا الألماني.
إن مخاوفنا-بحماقتها وصبيانيتها أحيانا-هي في الحقيقة نتاج قرونٍ من الحرب ضدنا باسم الحملات الصليبية تارةً، والاستعمار تارةً أخرى، والحرب على الإرهاب تارةً ثالثة، وربما غدا تصبح حربا ضد رذيلة "سيب ايدي". ولم لا؟
ولكن ماذا عن أولئك الذين ستجمعنا بهم صداقةً وزمالةً عابرةً للحدود، وإن لم تكن قادرةً على تحدي أحكام "الشنغن" و"الفيزا"؟ وماذا عن أولئك الذين فتحوا لنا بيوتهم، وسمحوا لنا بأن نربت على رؤوس كلابهم المدللة، وربما رؤوس أبنائهم أيضا؟ ماذا عن أولئك للذين شاطرونا عيشنا وملحنا-دون تدخّل المحرمات هذه المرة-، وقرعوا معنا كؤوسنا الخالية من أم الكبائر، فيما سردنا لهم ضاحكين قصص طفولتنا المعلّمة بضربات النعال المتطايرة؟
لنداوي عين إنصافنا العمياء قبل أن نتهكم على عينهم العوراء، لعلنا نرى بأن هناك من يزيحون "النجاسات" المؤذية في كلٍ يومٍ، وأبان كل محادثةٍ، وفي خضم كل لقاءٍ، دون حتى أن نطلب منهم ذلك، أو نقيم لهم محاكم التفتيش بحساسيتنا المفرطة وخصوصياتنا المعقدة، فالوحول التي يتمرغ فيها حيوانهم المفضل لا تشابهها أحيانا سوى وحول الشك والريبة في رؤوسنا.