7 منطلقات لسياسة مصر في الشرق الأوسط
هناك حقيقة رئيسية تواجه كل السياسيين وصانعي القرار اليوم: النظام الذي كان قائمًا في الشرق الأوسط طوال النصف قرن المنصرم لم يعد موجودًا.
هذا النظام كان يقوم على فرضيتين أساسيتين: أن مكوناته ووحداته من الدول ذات السيادة، وأن الولايات المتحدة (القوة العُظمى) هي الداعم الأخير لبقائه واستمراره، والضابط الأعلى لتفاعلاته وعلاقاته. هاتان الفرضيتان سقطتا في السنوات الأخيرة.
صارت الميليشيات والجماعات المُسلحة والطوائف والنحل والقبائل تُزاحم الدول وتتعايش إلى جوارها، حتى فقدت كثيرٌ من هذه الدول العتيدة صفة السيادة والسيطرة على الإقليم. أما الولايات المتحدة فهي- وكما يبدو من سياسة إدارة أوباما- ترغب في حصر نطاق حضورها ومسؤوليتها في المنطقة في الحد الأدنى.
إزاء هذا الوضع الجديد، يتعين تجديد سياسة مصر في الشرق الأوسط بصورة جوهرية. إن مصر تجد نفسها اليوم في وضع مُشابه لموقفها في الخمسينيات: تغير سياسي كبير في داخلها، ومنطقة من حولها يُعاد تشكيلها على أسس لم تتضح معالمها؛ بالتفكك والتفتيت من جانب، ومحاولات الهيمنة والسيطرة من جانب آخر. ولا بديل عن سياسات إقليمية تُجاري هذا الوضع وتتفاعل معه وتؤثر فيه.
يطرح كاتب السطور النقاط التالية كأساس لمناقشة لا غنى عنها حول أسس سياستنا الإقليمية في المرحلة المقبلة:
(1) لقد ظهر واضحًا أن الفجوة الكبيرة بين أولويات السياسة الخارجية كما تمارسها الدولة، وبين الاتجاهات السائدة في أوساط النخبة السياسية والثقافية تُمثل عبئًا كبيرًا على شرعية النظام، وقد بدت هذه الفجوة جليةً وشاخصة في نهاية عصر مبارك، حيث أسهم العجز الشامل للنظام وضعف قدرته على المبادأة والفعل في شيوع التشكيك ليس فقط في ممارسته للسياسة الخارجية، وإنما في المنطلقات التي بنى عليها هذه السياسة. وبرغم أن هذه المنطلقات- في مجملها – عكست رؤية براجماتية ترتكز على المصلحة المصرية، إلا أن النظام كان عاجزًا – أو غير مهتم- عن تبرير سياسته بصورة مقنعة للرأي العام الداخلي، الأمر الذي أدى إلى تآكل واضح في شرعيته.
والحاصل أن هذه الفجوة بين رؤية الدولة وتوجهات النخبة قد تقلصت بشدة في الفترة الأخيرة وخاصة بعد يونيو 2013، إذ ظهر أن التموضع المصري في الصراع الإقليمي كان له ما يبرره، وأنه انطلق من رؤية سليمة لمكامن الخطر والتهديد. ولا بد أن يجري العمل باستمرار على تقليص هذه الفجوة عبر طرح التوجهات الخارجية للدولة، والمبادئ الحاكمة لهذه التوجهات، بصراحة وشفافية كاملة أمام الرأي العام الذي ينبغي أن يُحاط علمًا بالدوافع والبواعث التي تُحرك السياسة الخارجية.
(2) إن التموضع في قلب المعسكر المحافظ في العالم العربي (وهو ما فعلته مصر منذ منتصف السبعينيات) يظل جوهر السياسة الخارجية لمصر، وثمة مصلحة أكيدة في الاستمرار في هذه السياسة خلال الفترة القادمة، عبر الحفاظ على السلام الاستراتيجي مع إسرائيل، وتعزيز التحالف مع الخليج، ذلك أن بدائل المنظومة الإقليمية القائمة (هيمنة إيرانية/ تصاعد لمد الإسلام السياسي/ استئناف الصراع مع إسرائيل على نطاق واسع /فوضى شاملة تنتعش خلالها الميليشيات المسلحة والجماعات الجهادية) تنطوي كلها على تهديدات واضحة للمصالح المصرية.
(3) بخلاف ما كان عليه الحال في السنوات الأخيرة من حُكم مبارك، فإنه سيكون على مصر ممارسة دور متقدم وأكثر إيجابية في حماية النظام الإقليمي الذي يتعرض لأخطار كبيرة، أهمها الانسحاب البادي للولايات المتحدة من المنطقة وتخلي الإدارة الأمريكية الحالية بالتدريج عن دورها التقليدي في المنطقة. وبصرف النظر عن أسباب هذا الانسحاب، وما إذا كان يُشكل ظاهرة مؤقتة متعلقة بإدارة أوباما أم اتجاها مستمرًا له دوافعه العميقة، فإن نتائجه صارت بادية للعيان، إذ كان من نتيجة الانسحاب الأمريكي من العراق في 2011، جنبًا إلى الجنب مع العجز عن التعامل مع الحرب الأهلية السورية، أن ظهر فراغ خطير في المشرق العربي سارع إلى ملئه عددٌ من الجماعات التكفيرية والجهادية المُسلحة، وعلى رأسها داعش.
والحاصل أن الاتجاه الأمريكي للانسحاب من المنطقة يضع أعباء إضافية على قادة المنظومة الإقليمية، وفي القلب منها مصر. وقد أظهر الرئيس السيسي- في أكثر من مناسبة- ما يعكس فهمه لهذا الدور المصري الجديد. وعلى سبيل المثال، فقد أشار في خطابه أمام المتحدة في سبتمبر 2014 إلى أن "مصر قادرة على أن تكون منارة لاستعادة النظام الإقليمي لتماسكه، ولن يتوانى المصريون عن القيام بدورهم هذا تجاه محيطهم".
(4) يظل التحدي الأكبر في الإقليم حاليًا هو تآكل مفهوم الدولة الوطنية، الأمر الذي ينعكس في التفكك والتفتت الذي يعتري عددًا من الكيانات السياسية في المشرق والمغرب العربي. هناك دول عربية رئيسية لم يبقَ منها سوى الاسم بعد أن فقدت السيطرة على كامل إقليمها، وفي المقابل هناك تصاعد لنفوذ وتأثير الجماعات الجهادية المُسلحة والجماعات الاثنية والميليشيات والقبائل، وغيرها من الفاعلين من غير الدول. وكمبدأ عام، ينبغي أن تُقدم مصر الدعم السياسي- وفي أحيان مُعينة ما يتجاوز ذلك من أشكال الدعم- للسلطات القائمة في مواجهة الجماعات الجهادية والميلشيات. على أن الأمر يقتضى كذلك نسج شبكة علاقات لا تقتصر على الدول، وإنما على جماعات في داخلها.
وعلى سبيل المثال، فإن الصراع الدائر في ليبيا، والذي انفجر باقتحام ميليشيات فجر الإسلامية للعاصمة طرابلس في صيف 2014، هو في جوهره حربٌ بين ميليشيات يلعب فيها العنصر القبلي، لا السياسي أو الأيدلوجي، الدور الأكبر. وإذا استمرت الاتجاهات الحالية، فسيكون من الصعب تخيل عودة ليبيا ككيان سياسي موحد في أي وقت قريب. وبهدف تأمين حدودها الغربية التي تمتد لأكثر من ألف كيلومتر، فإن مصر تحتاج إلى أصدقاء يُمكن الاعتماد عليهم في شرق ليبيا، الأمر الذي يُحتم نسج شبكة علاقات داعمة للأمن المصري في هذه المنطقة. وينطبق المبدأ ذاته –بصور مُتباينة- على الوضع في سوريا والعراق واليمن.
(5) سيكون على مصر- ولفترة غير قصيرة- الاستمرار في الدفاع عن النظام الإقليمي من موقع الضعف لا القوة، وذلك حتى تستعيد استقرارها السياسي الكامل وعافيتها الاقتصادية، ويكون بإمكانها تخصيص جهد معقول وموارد معتبرة للعمل الخارجي النشط. وهنا، فمن المُهم للغاية تحديد الأولويات بميزان دقيق. وبصورة إجمالية، يُمكن القول بأن الوضع في ليبيا يُمثل أولوية قصوى، خاصة مع تصاعد احتمالات تحولها إلى قاعدة انطلاق لداعش، في ظل تعرض الأخيرة للهجوم والتضييق في المشرق العربي. كما تُمثل متابعة الوضع في غزة واحتواؤه أولوية متقدمة، خاصة في ظل انعكاسه على المعركة التي تخوضها القوات المسلحة ضد الإرهاب في سيناء.
(6) تبقى الهيمنة الإيرانية التهديد الأكثر إلحاحًا للنظام الإقليمي، لأنه تهديد يتوجه لركائز هذا النظام ويسعى لتقويضها. وطهران اليوم في موضع الهجوم وهي تُمارس تأثيرًا هائلاً في توجيه الأحداث في أربع عواصم عربية، وإذا تمكنت من حسم الحرب الأهلية السورية لصالح بشار الأسد، ومن التوصل إلى اتفاق نووي مع مجموعة (5+1) يقر بها كدولة عتبة نووية (من دون الحصول على السلاح النووي بالضرورة)، فإن نفوذها الإقليمي سيتزايد بصورة غير مسبوقة. وهنا، فسيكون على مصر توفير الإسناد السياسي اللازم للسعودية ودول الخليج بهدف احتواء وإنهاك إيران في مناطق تمددها بالمنطقة عبر بناء شبكة من الجماعات المقاومة للنفوذ والتغلغل الإيراني في الدول التي يسعى للهيمنة عليها (سوريا/ لبنان/ العراق/ اليمن). ينبغي أن تتحول هذه البلدان من نقاط ارتكاز للنفوذ الإيراني، إلى بؤر إنهاك واستنزاف للمشروع الإقليمي للملالي.
(7) وأخيرًا، فإن المصدر الرئيسي لقوة مصر في المرحلة الحالية يتمثل في تماسك نسيجها الداخلي في مواجهة هذه الموجة العاتية من التفتيت والتفكك التي تجتاح المنطقة. وينبغي أن يشكل الدفاع عن الدولة الوطنية والاعتدال الديني أساسًا لخطاب سياسي وثقافي وإعلامي تتوجه به مصر إلى شعوب المنطقة. إن تراجع قدرة مصر على تشكيل "الأجندة الإقليمية"، وصياغة الخطاب السائد في المنطقة كان عاملاً حاسمًا في أفول نجمها كقيادة إقليمية. ولن يكون ممكنًا استعادة هذا الدور بدون أكبر حشد ممكن لإمكانات مصر وطاقاتها الثقافية والفكرية، وتوظيف هذه الإمكانات والطاقات في بناء منظومة إعلامية جديدة تتوجه في الأساس للمنطقة، وتنقل كلمة مصر إليها.