التوقيت الخميس، 28 مارس 2024
التوقيت 03:30 م , بتوقيت القاهرة

"أنا مع العروسة" وفن طرح الأسئلة

هناك أفلام تراها فتؤمن أنها تحف فنية، تمس مشاعرك وتشعر أمام اكتمالها بتعطل حاستك النقدية لحظيا، لتستمتع فقط وتُرجئ التفكير فيها لوقت لاحق. وهناك أفلام رديئة تجعلك تلقائيًا تشحذ أسلحتك التحليلية لتجعل منها نموذجا فيما يجب ألا يقع فيه من يصنع فيلما في المستقبل. وبين هذا وذاك يوجد نوع ثالث من الأفلام، قد لا يكون هو الأكثر اكتمالا لكنّه الأكثر أهمية، بمعيار من يعتبر الأعمال الفنية عموما والسينما خصوصًا مصدرا للأسئلة لا الإجابات.


أقصد الأفلام التي تدفعك دفعا نحو التفكير، سواء فيما تطرحه من أفكار أو قضايا، أو في بُنيتها السردية والبصرية وتفاصيل الصنعة بها. وسواء كنت متفقا أو مختلفا مع العناصر المذكورة، لا يمكن ألا تستفيد من الخوض في كل ما سبق، وألا تجزم بأن هذه النوعية من النقاشات والأعمال التي تثيرها، مكوّن رئيسي وهام ومؤثر في تطوير فن السينما بشكل عام.


لهذه المجموعة ينتمي فيلم "أنا مع العروسة" للمخرجين الإيطاليين أنتونيو أوجولياريو وجابريله دل جرانده والمخرج الفلسطيني خالد سليمان الناصري، والمعروض ضمن مسابقة الأفلام الوثائقية في مهرجان وهران للفيلم العربي بدورته الحالية. بعد أن عُرض عالميا للمرة الأولى في مهرجان فينيسيا السينمائي العام الماضي، ونال استقبالا حافلا بالمهرجان وفي كل مكان آخر عُرض به.



أهمية مناقشة تجربة المخرجين الثلاثة تبدأ من طريقة تمويل فيلمهم، والذي جُمعت ميزانية إنتاجه من خلال حملة إلكترونية للتمويل الجماعي crowd funding، تحمس خلالها أكثر من 2100 شخص للمساهمة في المبلغ المطلوب لإنجاز الفيلم، والذي يبلغ ـ حسب خالد الناصري ـ مائة ألف يورو، ليكون الفيلم هو أكبر تمويل جماعي لفيلم وثائقي في تاريخ أوروبا، وأكبر تمويل جماعي في تاريخ إيطاليا بشكل عام.


فيلم مُوّل بهذه الصورة هو بالقطع فيلم حر، لا يخضع إلا لمزاج صناعه، ولفكرتهم التي تمكنت من إقناع كل هذا العدد من المساهمين، وهي تلك المغامرة الطريفة لتهريب خمسة مهاجرين غير شرعيين، آتين من سوريا وفلسطين أملا في الوصول إلى السويد لطلب اللجوء السياسي. التهريب يساهم فيه عدد من المواطنين والمقيمين بشكل قانوني في الإتحاد الأوروبي، عبر فكرة بسيطة هي اختلاق عرس وهمي، وتهريب الخمسة أشخاص داخل موكب سيارات العرس الذي يصعب أن يفكر شرطي حدود في إيقافه وتفتيش من فيه.



الاختيار السابق يضفي تلقائيا سمتين على الجو العام للفيلم: خفة الظل والترقب، فهناك شعور عام بالبهجة تفرضه الأدوار التي يفترض أن يلعبها كل شخص خلال المغامرة، وهناك ترقب وتوتر دائمين تحسبا لظهور السلطات في أي لحظة لتقوم ليس فقط بإفشال الخطة، بل وتعريض المخرجين الثلاثة ومن عاونهم للمساءلة القانونية باعتبارهم يقومون بجريمتي الاتجار بالبشر وتسهيل الهجرة غير الشرعية.


التهديد الأخير يفتح الباب لمناقشة خيار آخر في المضمون المنطوق لشريط الفيلم، هو في رأيي أحد الأشياء التي تم الإفراط فيها على مدار الساعة والنصف التي تشكل زمن الفيلم، وهو التأكيد أكثر من مرة بشتى الطرق على هذا التهديد القانوني الواقع على صناع الفيلم. الأمر الذي جاء لأول مرة مثيرا للدهشة والاحترام، وفي المرة الثانية مؤكدا للمعلومة وشارحا لحجم العقوبة، قبل أن يتحول في المرة الثالثة والرابعة إلى عبء على ما يقوم به المخرجون من جهد إنساني حقيقي، وكأنهم يصرون على وضع أكثر من خط تحت كونهم أبطالا، فهم من سيدخل السجن إذا ما كُشف أمرهم بينما أقصى ما قد يحدث للمهاجرين هو أن تتم إعادتهم لبلادهم.



وكما كان الإفراط في تكرار التهديد القانوني مضرا في التوجه الإنساني العام للفيلم، كانت كثرة المشاهد الأدائية خارج السياق كثيرا. فالجو العام المسيطر على الرحلة كما قلنا صاخب وخفيف الظل، وهو أيضا حميمي ومليئ بالشجن كما يبدو في لحظات لا تُنسى كتلقى المخرج خالد الناصري بالصدفة خلال أيام الرحلة الأربعة لنبأ حصوله على الجنسية الإيطالية (وهي أول جنسية ينالها في حياته بحكم كونه فلسطينيا)، وكذا مشهد تذكر أحد المهاجرين لأسماء من ماتوا غرقا من رفقاء رحلة الموت لعبور المتوسط. وكان من الذكي أيضا (لا أعلم إذ ما كان الأمر مدروسا أم قدريا) أن يكون أحد المهاجرين الخمسة مغن راب صغير.


فالهاربون ليسوا متسولين جاءوا ليثقلوا على دول الشمال، لكنهم حالمين وموهوبين، لا يريدون سوى أن تنفذ هذه الدول وعودها، بدلا من أن تنال السمعة الدولية باعلانها لاستقبال اللاجئين في الإعلام، بينما تقوم في نفس الوقت برفضهم على أرض الواقع.


كل ما سبق ممتاز ومتماسك فكريا، لكن كثرة مشاهد الأداء بين غناء وشعر، أفقدت الفيلم عند لحظات تدفقه، وهو العمل المُقيد بحيزٍ زمنيٍ قاسٍ هو الأيام الأربعة التي تستغرقها خطة التسلل. زمن جعل كل ما يتعلق بالرحلة نفسه مشدود متماسك، تحركه الإثارة والتوتر والخوف من التعثر، لكنه يتوقف مرة واثنتان وأكثر لتوضيح ما سبق توضيحه.


ما يثيره "أنا مع العروسة" من أسئلة يمتد لقضايا خارج الفيلم، أبرزها فكرة "السماء والأرض للجميع" التي يطرحها الفيلم بوضوح، والتي يختلف معها كاتب المقال كليا. فإذا كانت الرحلة في حالة الفيلم تمتلك تبريرا أخلاقيا واضحا هو إعلان 17 دولة أوروبية رسميا عن قبولها لللاجئين السوريين، فإن الفيلم يسحب الحالة لمساحة تعميم عن ضرورة قبول أي دولة لهجرة أي إنسان لها، وهو أمر لا يتعارض فقط مع القوانين والأعراف الدولية، ولكن حتى مع فكرة العدالة للدول الجاذبة لتيارات هجرة لا حصر لها ومواطنيها.


لكنه موضوع أكبر من مقالنا ومن الفيلم ذاته، حتى لو كان الفيلم هو من دفعنا لمناقشته، تماما كما أثار في أذهاننا الكثير والكثير من الأفكار والأسئلة السينمائية والسياسية والإنسانية بشكل عام. وهو ما سيبقى من التجربة الممتعة التي قدمها لنا صناع "أنا مع العروسة" بميزاته وهفواته، فأمتعتنا ساعة ونصف وشغلت عقولنا لمدة أطول بكثير.