التوقيت الجمعة، 29 مارس 2024
التوقيت 04:09 م , بتوقيت القاهرة

مشاعرنا الرقيقة.. ماذا يجرحها وماذا ينعشها؟

كنت في طريقي عائدا من الجامعة، مستقلا مترو الأنفاق. أقف إلى جوار مقعد عرضي يجلس عليه رجل ثلاثيني وإلى جواره امرأة ثلاثينية محجبة، وهما متشابكا اليدين القريبتين ويتحدثان. يقف إلى جواري رجل مسن، ينظر إليهما ثم إلي. ينظر إليهما ثم إلي. وفي النهاية لم تحتمل مشاعره فقال بصوت عال: "إيه يا أستاذ، ما تراعي مشاعر الناس اللي واقفة".

"يا حاج دي مراتي"، قال الرجل الثلاثيني بهدوء.

"مراتك في بيتكم"، رد الرجل المسن، دون انتظار، وكأن الرد كان جاهزا، ثم أشار إليّ: "فيه شباب واقفين راعي مشاعرهم".

كنت أتعمد أن أنظر إلى الناحية الأخرى أثناء الجدل، لكي أبعد نفسي عن الموضوع، إذ أدركت من نظرات الرجل المسن إليّ وإليهما قبل أن يبدأ أنه سيجر رجلي. فقلت بسرعة: "لا ما تشغلش بالك أنا معنديش مشكلة، الراجل ماعملش أي حاجة".

هذا الجدل استمر فترة لا بأس بها. وبالنظر إلى أن هذه الواقعة حدثت في التسعينيات، فلا شك عندي أن الرجل الثلاثيني أقلع عن عادة تشبيك يده في يد زوجته وهما ذاهبان إلى العمل صباحا. لماذا؟

لأنه لم ينطق بالكلمة الوحيدة الواجبة النطق في هذا الموقع، "وانت مالك"، بل حاول تبرير تشابك يديه مع يد المرأة التي إلى جواره بأنها زوجته.

هذا يعني أن الرجل المسن، والرجل الشاب، كليهما، يرجعان إلى نفس المرجعية، مع اختلاف الدرجة. ونحن في هذا الجدل منذ 1400 سنة حين ضرب عمر بن الخطاب رجلا بالدرة لأنه يمشي ممسكا يد زوجته.

هذا الموقف تكرر أمامي مرات أكثر من أن تحصى، بتنويعات، عمرية وانتماءات دينية، وطرق لبس مختلفة.

هذا أول وأبرز ما يجرح مشاعرنا الرقيقة. التعبير عن مشاعر "الحب". سيقولون مرة إنه انحلال، وإنكم تريدون عريا وإباحية، لاحظي. يحبون أن يوحوا أن الناس سيمشون عرايا في الشوارع، رغم أن الناس لا يفعلون ذلك ولا في أوروبا حتى. لكن الحقيقة أنهم يرفضون أبسط درجات التعبير عن الحب. وأبسط هذه الدرجات هي زوج وزوجة يجلسان متشابكي الأيدي في عربة المترو.

هل يعيش مجتمع بلا حب؟ لا يمكن. لماذا؟ لأن شعورا آخر سيأتي ليملأ مكانه. نفس هؤلاء الناس الذين سيطروا على فضائنا الاجتماعي، وفصلوا الأيدي المتشابكة، هم أنفسهم الذين لا يتوقفون عن الدعوة للقتل، وعن التماس الأعذار للقتلة، وعن تمجيد فعل القتال.

كما أنهم هم أنفسهم الذين يروجون البارانويا وكراهية العالم، وأن العالم متآمر علينا. يدعون على المسيحيين وعلى اليهود بالويل والثبور والهلاك. ويسخرون من أديان الآخرين وعقائدهم.

ونعم.. نعم.. لو انتقد أحد عقيدتنا ستنجرح مشاعرنا الرقيقة. لو بدل أحدهم دينه - دون أن يدعو إلى أذية أحد - ستنجرح مشاعرنا الرقيقة. أي والله ستنجرح جرحا لا يوازيه إلا جرح مادي ينزف حتى الموت في جسد المنتقدة أو المنتقد. ولو كان الانتقاد بسيطا مهذبا ليس متبوعا لا بدعوات هلاك ولا بتوعدات إهلاك.

يا أخوات ويا إخوة، مجتمعنا صار يحتاج بشدة إلى تضبيط صواميل العقل. لا يمكن أن نعيش مع هذا القدر من البارانويا. مع كل هذا الكره للحب، والحب للكره. لا يمكن أن نعيش نرمي الآخرين بالطوب، ونعتبره حقنا الطبيعي المبارك من السماء، فإن فعل آخرون معنا عشر ما نفعل معهم قتلناهم. لأن مشاعرنا الرقيقة - الرقيقة خالص - لم تحتمل. لا يمكن. إننا نربي فرانكشتاين وراء فرانكشتاين. لم يعد الموضوع رفاهية فكرية. بل مستقبل أمة وسعادة أفراد، أجيالا وراء أجيال. ثم، على الأقل، لا تربطوا بين هذه العدوانية وبين "جرح المشاعر"، لأن العبارة مش راكبة. فلنقل أي عذر آخر.

ثم يجب ألا نستهبل فنعتبر أن هذا سلوك متطرفين. لا. هذا سلوك مجتمع. مجتمع عدواني شتام "فهلوي"، لكنه يتحدث عن الفضيلة ليل نهار. يبيح للسانه ما يحرمه على أذنه. والقتل عنده جريمة لا تخل بالشرف، بل في أحيان كثيرا عنوان للفخر والشرف. تجرح مشاعره ملامسة الأصابع، وتهيجها ملامسة بأس الحديد.