التوقيت الخميس، 25 أبريل 2024
التوقيت 09:50 ص , بتوقيت القاهرة

العائدون من بلاد برة

تخرج في كلية من كليات القمة واجتهد حتى حصل على فرصة للسفر إلى أوروبا لإكمال مسيرته التعليمية والمهنية، ثم عاد في إجازة قصيرة لاختيار فتاة تشاركه الرحلة.


قصة عدد ليس بقليل من الشباب المصريّ، تحدثني إحدى صديقاتي عن ذلك "العريس اللقطة" الذي تقدم لخطبتها، على قدرٍ من التعليم والاجتهاد، انتهى من تحضير رسالة الدكتوراه في إحدى دول الغرب وهو في الثالثة والثلاثين، ثم عاد ليجد بنت الحلال، تحت إلحاح العائلة وافقت على التحدث معه رُغم رفضها لفكرة "جواز الصالونات".


"هخسر إيه يعني؟! هريحهم واتكلم معاه".


تكلم كثيرا كثيرا، لم يكن غرضه من الحديث أن "يتواصلا ويستمعان إلى رؤية كل منهما في الحياة"، كان أكثر وضوحا فيما يريده، كان يريد منها أن تُنصت في حين يُملي قائمة رغباته في شريكة حياته، لسان حاله: "قيّفي نفسك على الوصفة دى يا بنت الحلال".


لا أحتاج إلى ذِكر أنه لم يرها من قبل، ولا يعرف عنها إلا أنها "متعلمة تعليم عالي وبنت ناس طيبين" كعادة زواج الصالونات، على كل حال لم يعط نفسه الفرصة كي يستمع إليها كذلك ليعرف كيف تفكر، كان أكثر انشغالا بإملاء قائمة رغباته.


"الأسرة والاستقرار أهم حاجة، مفيش مشكلة أن لو حتى اتنين كرهوا بعض يكملوا برضو عشان تبقى الأسرة قائمة".
"لو حصلت على فرصة وسافرت بلد تانية مش متوفر فيها شغل ليكي هتعملي إيه؟ أكيد طبعا هنسافر المكان اللي فيه فرصة ليا!"
"بالنسبة للأطفال نجيب دستة مثلا! هاهاها!"
"هنلبس شبكة لما أرجع أجازة نص السنة أسبوعين، وأعمل توكيل لحد من أهلي، نكتب كتابنا غيابيا وتسافري لي بعدها كزوجتي".
"الستات واخدين حقوق أكتر من اللازم الحقيقة، في أوروبا بالذات الستات زي ما يكونوا ماسكين ذلة على الرجالة!".


حين صمت أخيرا، ربما لأنه انتهى من حديثه، أو ربما لأنه أراد أن يستمع إلى إقرارها بما أَملى، وربما كان يبتلع ريقه ليكمل المنظرة بشهاداته من جامعات الخارج، الشهادات التي مُنعت هي من الحصول عليها لأنها بنت وما يصحش تسافر لوحدها، ويكمل إملاء شروطه على بنت المحظوظة التي قرر أن يشرفها باسمه، فانتهزت هي الفرصة لكي تُفصح عما في نفسها.


"الأسرة اللي أفرادها مش سعداء ومش عارفين يتعايشوا مع بعض هي أسرة تعيسة، سعادة المجتمع نتاج لحالة أفراده بالضرورة، تفتكر دا مجتمع سوي وسعيد يعني؟! ترابط الأسرة أهم من إيه بالظبط؟ من السعادة؟! طب إيه القيمة البديلة الأهم من السعادة اللي هيحققها الترابط دا؟!"


"مش هيضر بعض التقدير المتبادل بيننا لحياة الآخر المهنية، ليه افترضت أن شغلك أهم من شغلي؟!"
"انت وصلت لدستة أطفال؟! أنا لسة ما أعرفش اسمك ثنائي! طيب مش محتاج تعرف وجهة نظري أنا في الخلفة؟!"
"حضرتك جاي تختار عروسة ما تعرفش أي حاجة عن تفكيرها ورؤيتها للحياة وهتشوفها مرتين وبعدين تبقى مراتك؟! ومطلوب تعرفوا كل حاجة عن بعض غيابي ومن وراء الكاميرات لمدة كام شهر استعدادا لأنكم تقضوا حياة كاملة في وش بعض لا ينهيها إلا الموت، حيث إن الطلاق مرفوض طبعا كخيار محتمل؟ أبغض الحلال! لكن التعاسة مش الحرام بعينه! يا أخي أحمس!"
"الستات في أوروبا مش واخدين أكتر من حقوقهم، الذكر الشرقي هو اللي اتعود على أن الست مطيعة ومهاودة وبتسمع الكلام ومش مهم حقوقها المستقلة كإنسانة شريك في الحياة، مش سنيد أو بشر درجة تانية! اللي وصلوله الستات دول هو جزء من حقنا الطبيعي في أننا نكون "بشر" بالتعريف الطبيعي للكلمة".


بانت الصدمة على وجه المسكين: " إنتى بتتكلمي زي ستات أوروبا!"


في سخرية أخبرته: "شفت حظك؟! رجعت تدور على واحدة مطيعة ماتجادلش كتير زي ستات أوروبا اللي بتشتغل معاهم ومجبر تعاملهم كَنِد، وقعت في واحدة بتتكلم زيهم!".


يمكننا بسهولة الاستنتاج بأنه لم يعد مرة أخرى، الشاب النموذج الذي يخرج ليرى العالم المتقدم عنا عقود إلى الأمام، ينبهر بنظامهم وتقدمهم وإخلاصهم في العمل، يعجب بقوة نسائهم وبقوانينهم التي منحته حماية لا تلتفت لاختلاف ثقافته أو دينه أو لونه، ثم يعود إلى بلده ولم يتغير شيء من منظومته القيمية، لم يعرضها للاختبار أو المقارنة، لم يتوقف لوهلة متسائلا: هل فعلا كل ما لدينا من قيم يجب التمسك به؟ أم أن بعض تلك "القيم" عوائق حقيقية في طريق إنسانيتنا ونجاحنا واحترامنا لبعضنا البعض؟!


عاد ليبحث عن "واحدة مطيعة وبنت حلال تترك عملها لتربي دستة الأطفال التي ينوي إنجابها". بينما يعمل هو لأن عمله أهم طبعا من عملها، ولأن الأسرة نواة المجتمع، حتى لو كره أفرادها بعضهم بعض، زي ما ضهر كتاب اللغة العربية قاله.


 كيف سيكون حال هذا المجتمع على أي حال؟! 


لم تنته معاناة صديقتي بانصراف هذا "العريس اللقطة" عنها، سيتوقف الأهل عن الإلحاح مؤقتا ثم تستأنف وصلات الزن والمعايرة بسنها، وبأن صديقتها فلانة "عندها عيلين" بمجرد أن يدق الباب "عريس لقطة آخر".. لن يلتفت أحد بالطبع إلى أن تلك الصديقة ليست سعيدة وتتمنى لو أنها لم تتخل عن عملها ولم تتسرع فى إنجاب أطفال، ليس عندها أي تصور عن كيفية تربيتهم.. هذه أشياء غير مهمة طبعا، ماتدخلنيش في تفاصيل يا مدحت!


المهم، قوليلي يا صفاء: مفيش حاجة في السكة؟! مش هنفرح بيكي بقى! عايزين نشرب الحاجة الساقعة!