التوقيت الأحد، 28 أبريل 2024
التوقيت 08:51 ص , بتوقيت القاهرة

سمعت آخر نكتة؟

كانوا جالسين في الطاولة المجاورة لي أنا وصديقي في مقهانا المفضل في مصر الجديدة.. كانوا ثلاثة رجال في الأربعينات أو أوائل الخمسينات.. وكانوا يتبادلون النكات.. ويضحكون عاليا..  تركت كل ما بيدي وكنت أنظر لهم باسما وهم يدقون كفوفهم معا كنخب يدوي للصداقة والمحبة والضحكة التي من القلب.


"سمعت آخر نكتة ؟"


يااه لكم افتقدت هذه الجملة!  كنت أظن أن آخر نكتة قد قيلت قبل انتشار "فيس بوك" و "تويتر"، وبقولها انتهت هذه السلسة وأصبحت الضحكة و السخرية  مجرد "تاج" في صورة أو رسالة صغيرة على " الواتساب".


رحل صديقي الذي كان معي على القهوة وبرحيله كانت جلستي وحيدا أمام هؤلاء الضاحكين تذكرني برحيل صديق آخر.. ولكن هذا الصديق الذي رحل .. رحل عن دنيانا منذ قرابة السبع سنوات.. كنت صغيرا أحب جلسته مع أصدقائه وأستمتع بنكاتهم وضحكاتهم.. رحل أبي في العام الثامن من الألفية الجديدة وبرحيله افتقدت جلسات السمر في بيتنا أو بيوت أصدقائه .. وأصبحت فجأة لا أقول آخر نكته كما كنت أحب أن أقولها في أوساط الكبار.


"الضحكة عملة نادرة ؟ "


لا.. هناك العديد من الضحكات في حياتنا .. لتفتح أي محادثة سابقة على هاتفك الذكي وتعد عدد الوشوش الضاحكة.. هل تبتسم أو تضحك حقا وأنت ترسلها؟ وهل يضحك راسلها لك ؟


كانت فرصة جيدة للجلوس مع نفسي وطرح مجموعة من الأسئلة .


- آخر مرة ضحكت من قلبي كان إمتى؟


- أقدر أستغنى عن موبايلي أد إيه ؟


- آخر مرة لعبت كورة في الحقيقة مش بلايستشن كان إمتى ؟


- آخر مرة نزلت أتمشى في الشارع  وخرجت في مكان مفتوح مش كافيه  يكون فيه واي فاي كان إمتى ؟


وكانت إجاباتي على الترتيب: مش فاكر – ممكن وأنا نايم أو مشغول في الشغل – من خمس سنين - من تلات سنين .


أحسست بنفاقي وعبوديتي.. أكتب وأتكلّم عن خلع الماسكات ومحادثاتي  الإلكترونية المليئة بالضحكات السمجة المجاملة. أحيانا أكون مشغولا لا أستطيع الكتابة لمن يرسل لي فأكتفي بإرسال ضحكة لا أضحكها.. أكتب وأتكلم عن الحرية ورفض ما يقيدنا وحياتي عبودية كبيرة للتكنولوجيا.


المشكلة أنها عبودية لا سبيل لرفضها.. عبودية تسرق منّنا بساطتنا ومشاعرنا وتضعها في علبة ملوّنة جميلة وسريعة الوصول و لكنها بلا روح.. متعة لحظية تحس بها وأنت وحيدا ولا تحتاج لبهجة اللمة .. لقد صنعت حتى تربط الناس ببعضهم رغم البعاد و لكنها فرقتهم رغم القرب.


حتى النكتة التي تعتمد في ضحكتها على إلقاء قائلها وطريقته أكثر من محتواها نفسه.. لغة الجسد والصوت والحركة و تلاقي العيون.. استبدلناها بصورة ساكنة بتعليق.


النكتة بغيابها أعطتنا مثالا آخر على بعدنا عن بعضنا.


نحن جيل مظلوم بإرادتنا.. نفتقد متع الحياة الحقيقية رويدا رويدا.. نتحول لكائنات بلاستيكية أو معدنية .. قطع تفكيري قيام الرجال الضاحكين بعد أن انتهت جلستهم .


رحلوا دون أن يأخذوا صورة واحدة ..
رحلوا و لكنهم تركوا في قلبي صورة كنت أفتقدها كثيرا ..


صورة حيّة نقية بدون فلتر... و ذكريات نكات أفتقدتها منذ سنوات .. حتى و إن كانت ليست أفضل نكته ... أو .. آخر نكتة.


لمتابعة الكاتب