التوقيت الجمعة، 29 مارس 2024
التوقيت 08:16 ص , بتوقيت القاهرة

التصميم الغبي

انتبه جيدًا.. ضع يدك اليسرى فوق رأسك.. ضع يدك اليمنى فوق يدك اليسرى.. بضربات إيقاعية من اليمنى على اليسرى فوق الرأس وبنغمات مدبولية ردد ورائى: "أنا اللي جبت ده كله لنفسي.. أنا اللي جبت ده كله لنفسي".


من منّا لم يكن هذا هو حاله في لحظةٍ ما؟


لحظة أخذ ينظر لنفسه ويفكر؛ أي جريمة هذه التي قد ارتكبها في حق نفسه عندما أقدم على قرار الزواج من هذا الشخص، لحظة يشعر فيها (رجلا أو امرأة) بمقدار الفجوة التي تفصل ما كان يتوقع أن يرى وما يراه فعلاً في الواقع من زواجه.


ثم لا يلبث أن ينسى تلك الفجوة ويقرر أن يُكمل الحياة، لأي سبب، أو حتى بلا سبب، إما انشغالاً بدوامة الحياة وتسويفًا للنظر في تلك الفجوة، أو خوفًا من مجهول يترقب، أو حتى أملاً في إصلاحٍ قد يأتي على حين غِرّة كمعجزة إلهية ومكافأة ربانية على صبرٍ واحتساب.


إلى أن يأتي يومٌ فإذا بما أسميناها فجوةً، هي ثقب أسود يبتلع كل ما حوله ويعتصره.. نحن، والعلاقة، وحتى الأسباب التي كنا لأجلها نتجاهل ما نحن فيه. 


الفجوة:
قد يبدو لك هذا أكاديميًا نظريًا بعض الشيء، لكني أظنه قد يساعدك في فهم ما يجري قليلاً. فلتجلس مع نفسك ومشروبك المفضل وورقة وقلمٍ ثم ترسم خطّين متقاطعين عموديين على بعضهما، فيكون بذلك عندك أربعة أطراف.. ثم تكتب عند كل طرف واحدًا من أهم أربعة أسباب قد جعلتك تتزوج أصلاً أو كنت تتوقعها فى شريكك أو كانها هو فعلاً من قبل، وليكن على سبيل المثال:


امرأة تزوجت لأنها كانت ترى في الزواج أربعة جوانب  (1) اجتماعي "زوجها سيحقق لها الاستقرار الأسري(2) اقتصادى "زوجها سيشعرها بالأمان المادي ويكون كريمًا معها ولا يقف عائقًا أمام عملها ( 3) عاطفي، وجنسي "زوجها سيكون حنونًا رومانسيًا محبًا لها ومكافئا لتطلعاتها الحميمة(4) إنساني "زوجها سيقدم لها قدرا عاليا من الاحترام والتقدير والفخر أمام نفسه وأمام الناس" طبقًا للمثال السابق يكون الشكل المطلوب رسمه كالتالي


 


وكما هو موضح فإنّ كل جانب مدَرَّج حيث طرف الخط يمثل أعلى نقطة من حيث الأهمية، ونقطة تقاطع الخط مع باقي الخطوط تمثل أقل نقطة من حيث الأهمية. فإذا حددت صديقتنا هنا نقطة لكل جانب تمثل أهمية هذا الجانب من حيث توقعها في زواجها فصار عندها أربع نقاط، واحدة على كل خط، ثم إن وصَّلت كل النقاط ببعضها، صار عندنا الشكل التالي 



فهنا صديقتنا تتوقع قدرًا عاليًا من الأمان الأسري وقدرًا كبيرًا من الرومانسية والحميمية، وقدرًا معقولاً من التقدير والاهتمام بطموحاتها، وقدر الكفاف اقتصاديًا.


ثم تأتي وتحدد بنفس الطريقة الواقع الذي تعيشه الآن مع زوجها فينتج مضلعاً متداخلاً ومتقاطعًا في بعض النقاط مع المضلع الأول ليكون عندنا شكلاً نهائيًا للفجوة بين ما كانت تأمل وما تعيشه الآن



بالقطع لست مضطرًا لرسم هذا الرسم على الورق، فهذا هو مجرد شرح لما يدور في مخك، قد تحتاج له بالفعل إن كنت محتارًا ولا تدري من أين تبدأ أو لا تدري كيف تعبر عما تشعر به من فقدان لشيء هو في غاية الأهمية عندك. تستطيع أن تأخذ كل جانب بالتفصيل أكثر في رسم منفصل وتستطيع أن تغير أسماء هذه الجوانب الحياتية طبقا لما تريد.


التصميم الغبي:
إن كنت قد تصوّرت من عنوان المقال أنه مقابل "التصميم الذكي" الذي يُتخذ كبرهان على أن للكون صانعا وخالقا، فأنا أعتذر منك، فالتصميم هنا تعني الإصرار إصرارًا غبيًا يأخذ العديد من الأشكال، بعد أن يدرك المرء الفجوة التي تملأ حياته. فالقليل هو من يُدرك الفرق بين أن تسكب دلوًا من الماء على السلم، وبين أن ترفع نفس الدلو شدًا بالحبال من غياهب الجُب حتى ترتوي. الفرق يا صديقي هو بذل الجهد والطاقة، والذكاء في توقيت بذل الجهد وتوقيت توفيره حيث لا يصنع جديدًا.


فتجد زوجة تُدرك فجوة حياتها وجل ما تفعله هو أن تظل بكّاءة لوّامة ندّابة، وكأنّ كل ما تريده هو أن تُمسك بقلم التحديد الفوسفوري وتلون منطقة الفجوة بين المضلعين على الرسم البياني، ثم تزداد تظليلاً وتحديدًا، فلا يظهر من الرسم مضيئًا في ظلام حياتها إلّا تلك البقعة الممثلة لما ينقصها.


وتجد ذلك الزوج السلطوي الذي يُدرك مؤخرًا أن زوجته تريد.. وكيف لها أن تريد طالما هو لا يريد.. أو أنها مختلفة في شيء.. وهيهات وحاشا وكلا... فيبذل كل طاقته فى إجبار زوجته لفعل ما يريد أو في قمعها لترك ما تريد.


أو على العكس تمامًا تجد من يُدرك جيدًا مقدار الفجوة بينه وبين الآخر ثم تجده، بدلاً من أن يمسك بالقلم الفوسفوري، يُمسك بالممحاة، فيمسح حدود مضلَّعه الخاص فقط ليذوب في إرادة الآخر، متخيلاً أنهما بذلك قد يصبحان كيانًا واحدًا، ولا يدرك أنه بفعلته لم يتوحد مع محبوبه بل أزال نفسه كليًا من الوجود.


تخيّل معي هذه الأضلاع المرسومة أعلاه وهي بيدين وكل منها يشد الآخر حتى يأتي إلى منطقته أو أحدهم يمسك بزجاجة ماء نار حارقة ليذيب بها أضلاعه ولا يفكر أي منهما أن الأيدي ليست بكافية، وأنه لابد له من أعين ينظر بها إلى رسم الطرف الآخر، وقلبٍ يشعره بحاله ويشعره بالآخر، وعقل يفكر في وسيلة يقدمها ووسيلة يأخذها حتى يتوصل لسد فجوة أدركها، ولسان ليتحدث به مع الآخر لا ليسبه، وأرجلٍ لتمضى إلى حل وسط. يكمن سر التصميم الغبي فى أنك لا ترى إلا شخصا واحدا ولا ترى معه الآخر.


سأل أحدهم دكتور جاري تشابمان: "ولماذا كل هذا الجهد وما لي في ذلك؟" فأجابه "السعادة التي ستشعر بها عندما تعيش مع شخص يشعر بكونه محبوبًا!" 


للتواصل مع الكاتب