التوقيت الإثنين، 29 أبريل 2024
التوقيت 11:42 م , بتوقيت القاهرة

"ياقوت" نجيب الريحاني يظهر للنور

السينما هي نحت في الزمن، نحت يضمن للفنان الوجود الأبدي في أذهان المحبين. ولا دليل أبرز من أننا جميعا عرفنا نجيب الريحاني من أفلامه، رسخ في ذهننا وصار رمزا للكوميديا المصرية من عدد محدود جدا من الأفلام التي لعب بطولتها، مقارنة بعشرات العروض المسرحية التي طاف بها العالم من شرقه لغربه لتصنع نجوميته في حياته، نجومية كان من الممكن أن تصير نجومية منسية، محدودة في المراجع وشهادات المتخصصين، تماما كما نسمع عن يعقوب صنوع وجورج أبيض وعزيز عيد، دون أن نعرف حتى وجوههم.


ولمعرفة مدى هامشية السينما في حياة الريحاني نفسه، الذي كان يتعامل معها كنشاط من الدرجة الثانية في حياته المخصصة بالكامل للمسرح، يكفي أن تنظر لمذكراته المنشورة عن مكتبة الأسرة في 249 صفحة، والتي تظهر السينما فيها لأول مرة بشكل عابر في صفحة 207، قبل أن يتركها مجددا ولا يعود لذكرها إلا قبل نهاية المذكرات بتسع عشرة صفحة فقط!


السينما بالتأكيد لم تكن الهم الشاغل لنجيب الريحاني، الذي تعامل معها كاهتمام جانبي ومصدر للكسب أكثر من كونها مشروعا فنيا حقيقيا كمسرحياته. لكن الاختراع الساحر كان السبب في أن يجعل جيلا لم يعاصر الريحاني حتى جيل آبائهم، يحتفلون بظهور نسخة من فيلمه النادر "ياقوت" بعد عقود من الاختفاء الكامل.


قيمة تاريخية


"ياقوت" الذي تم تصويره خلال الأشهر الأخيرة من 1933 ليعرض في سينما أوليمبيا ليلة 16 أبريل 1934 يمتلك قيمة تاريخية كبيرة بحق. قيمة تبدأ من كونه أول فيلم ناطق يلعب الريحاني بطولته، فقد صوّر قبله الفيلم الصامت "صاحب السعادة كشكش بك" الذي عرض عام 1931، ثم تم تركيب شريط صوتي له ليعاد عرض نسخته الناطقة في يناير 1934 بعنوان "حوادث كشكش بك". "ياقوت" أيضا تم تصوير معظم مشاهده في فرنسا. بالإضافة إلى كونه ظل مختفيا تماما لعقود طويلة، ظن الجميع فيها أنه قد فُقد نهائيا، قبل أن تظهر نسخة منه في السينماتيك الفرنسي.



الراحل مدكور ثابت قام أثناء رئاسته للمركز القومي للسينما بالاتفاق مع السينماتيك لعمل نسخة من الفيلم تكون مملوكة للمركز باعتباره الأرشيف القومي للسينما المصرية، لكن لأسباب غير معروفة ظلت هذه النسخة حبيسة مخازن المركز القومي، ولم ينظم للفيلم أي عرض عام بعد استعادته، حتى ظهرت أخيرا نسخة على شبكة الإنترنت، رفعتها مجموعة أرشيف الكلاسيكيات الشهيرة "أصحاب للأبد لحفظ التراث"، لتسعد محبي نجيب الريحاني والسينما المصرية بشكل عام، وتثير علامات استفهام أعتقد أن على الدكتور وليد سيف رئيس المركز الحالي أن يفتح تحقيقا حولها، تتعلق بكيفية خروج نسخة من الفيلم للمجموعة بشكل غير قانوني.


ياقوت أفندي الذي يكرهه صاحبه


التعقيدات القانونية ليست موضوعنا هنا. موضوعنا هو الفيلم نفسه الذي يدرك كل من حاول مشاهدة الأعمال الكاملة لبطله أن توافره للجميع هو حدث سينمائي يستحق الاحتفاء، والذي يلعب فيه الريحاني للمرة الوحيدة في أفلامه (باستثناء كشكش بك الذي لم يشاهده أحد) دور رجل من أصحاب الأملاك، بعكس شخصية الفقير الحكيم التي لعب تنويعات عديدة منها في أفلامه التالية.



ياقوت أفندي كما يصفه التاجر الذي يسكن بجواره في الفيلم "راجل كله خير وبركة، جيّد وكفه مفتوح، ولا نفخة ولا عنطزة، مع إنه يحتكم على خمسين فدان وبيتين مِلك إيرادهم يوكله الشهد". لكنه رغم أملاكه يصمم على العمل كمحصل إيراد في دائرة أملاك أحد الأثرياء، لإيمانه بقيمة العمل والأخلاق، حتى يقوم مديره بطرده من العمل في وجود مليونيرة فرنسية، فتُعجب به وتتزوجه، ليسافرا معا إلى فرنسا. وهناك يصدمه اختلاف الثقافة، والأمور التي يجب أن يوافق على قيام زوجته بها من سهر ورقص ولعب ورق وملابس مكشوفة، حتى يضيق بالوضع ويقرر أن يعود لوطنه.


الفيلم الذي أخرجه الفرنسي ويلي روزييه بدائي جدا على مستوى الكتابة والتنفيذ. وبالمقارنة بأفلام الريحاني الأفضل "لعبة الست" و"أبو حلموس" و"غزل البنات"، لا يمتلك الفيلم أي قيمة فنية بخلاف محاولات استشراقية من المخرج لرسم روح الحارة المصرية ببعض الأغاني وصوت الآذان. محاولات طموحة بمقاييس زمنها لكنّها لم تضف للفيلم في الحقيقة أكثر من تباطؤ في الإيقاع البطيء أصلا.


الطريف أن الريحاني نفسه لم يحب الفيلم إطلاقا، ويروي في مذكراته أن الأمر بدأ ببرقية تلقاها من إيميل خوري سكرتير تحرير جريدة الأهرام، بها تحويل بخمسين جنيها وطلب بأن يوافيه في باريس لتصوير فيلم سينمائي هناك. نفذ الريحاني الطلب وسافر بصحبة بديع خيري، وهناك عرف حقيقة الأمر، وهي أن خوري أخذ المقاولة من شركة جومون الفرنسية لحسابه الخاص، ويريد من الريحاني أن يدخل معه شريكا بنسبة الثلث، لتنفيذ سيناريو من تأليف إيميل خوري، لم ينل إعجاب الريحاني إطلاقا لأنه وجده "لا يصلح بتاتا خاصة لجمهوري الذي عرفني وعرفته"، وأن حواره "في مقدوره أن يسقط بدل الفيلم الواحد فيلمين أو ثلاثة".


الريحاني كاد أن يرفض المشروع ويعود لمصر، لكن نصائح بديع خيري الذي حذره من أن عودته خالي الوفاض لمصر ستفتح أبواب الشائعات حوله، وخلو جيبه حتى من ثمن تذكرة العودة، دفعاه للموافقة على العمل وحسب قوله "قلت لنفسي صهين يا واد يا نجيب وأهو فيلم يفوت وما حد يموت"، وبدأ تصوير السيناريو الذي عدله بديع خيري وإحسان خالد (حسب الأسماء التي يحملها التتر وإن لم يذكر الريحاني الأمر في مذكراته، وفي الأرجح أن إحسان خالد هو اسم مستعار لإيميل خوري نفسه).


التصوير تم في استوديو جومون، واستغرق تصوير الفيلم بأكمله ستة أيام فقط، الأمر الذي جعل نجيب يقول إن سبب "الكروتة والطلصقة هو أن السيد خوري لم يهمه سوى ضغط الميزانية"، وقد كان لينتهي المونتاج في أسبوعين ويكون الفيلم جاهزا ويحتفل به خوري ومن معه،  ليكون رد فعل البطل أن هز رأسه وطمأنهم "أن الفيلم لن تقوم له قائمة ولن يلاقي أي حظ من النجاح"، لأنه "صيغة منتهى الجموع بتاعة قلة البخت، قد تفضلت بمرافقته في الفيلم من بدايته لنهايته".


تناقضات تثير التساؤل


الفيلم وحديث الريحاني عنه بهما تناقضات كثيرة تثير التساؤل، أولها اسم المؤلف الذي يختلف في رواية الريحاني عن التترات، والذي يمكن منه استنتاج ما قلناه عن تدخل بديع بالتعديل واستخدام خوري لاسم مستعار. تناقض آخر يتعلق بتأكيد الريحاني أن التصوير والمونتاج والتحميض تموا بالكامل في باريس خلال ثلاثة أسابيع، بينما يحتوي الفيلم على لقطات عديدة لشوارع القاهرة ومعالمها. وإن كان من الممكن أن تكون هذه لقطات أرشيفية مملوكة لاستوديو "جومون" تم توظيفها داخل الفيلم.


التناقض الأكبر يتعلق بطاقم الممثلين، الذي يقول الريحاني عنهم "جمعناهم من الحي اللاتيني ومن جميع الملل والنحل، فمثلا احتجنا لشخص يقوم بدور أستاذ يلبس العمة والقفطان، فلم نجد من نسند له الدور إلا شخصا فرنسيا لا يعرف من العربية حتى اسمها، وقس على ذلك بقية الأدوار الهامة وغير الهامة".


بينما ينفي شريط الفيلم نفسه هذه المبالغة، فالحوار طوال الفيلم إما بعربية سليمة أو فرنسية سليمة لشخصية الزوجة ومن حولها، وكل الشخصيات المصرية يلعبها ممثلون مصريون، وحتى الشخصية الوحيدة التي تلبس عمة وقفطان، فيلعبها ممثل مصري تماما شكلا وموضوعا، اسمه شريف عبده حسب ما تقول تترات الفيلم.


صحيح أنه ممثل سيئ المستوى، لكنه في النهاية أبعد ما يكون عن وصف بطل الفيلم له، وهو ما قد يجعلنا نتحفظ على كثير من المعلومات المذكورة في المذكرات، والتي كتبها الريحاني بدقة وبالتواريخ والأسماء، بما يوحي بصدق لا يبدو أنه كان كاملا.


تناقض آخر لا علاقة له بالمذكرات، ولكن بالمنشور الدعائي الذي سبق عرض الفيلم في سينما أوليمبيا (يمكن مشاهدته مصاحبا للمقال)، والذي يشير لأن الفيلم يحتوي على "أعظم مباراة عالمية في الملاكمة بين بريمو كارنير وأريني شاف". وهي مباراة غير موجودة إطلاقا في نسخة الفيلم المتوافرة، وإن كان هناك ما يشير لوجودها، وهو خط كوميدي يقوم فيه الريحاني بالتدريب على الملاكمة تلبية لرغبة زوجته الفرنسية التي تحب هذه الرياضة. وأغلب الظن أن المباراة تم حذفها من نسخة الفيلم التي لا تتجاوز 77 دقيقة، وهو زمن أقل من المعتاد في تلك المرحلة.


الكثير من التساؤلات والقضايا يثيرها ظهور فيلم "ياقوت"، حول أهمية السينما وغياب الأرشيف السينمائي المصري، وتسرب النسخ من الجهات الحكومية المصرية، وقيمة المذكرات في تأريخ السينما. لكن يظل توافر الفيلم أخيرا للمحبين، حدثا جللا يستحق التوقف عنده.


شاهد فيلم ياقوت