التوقيت الخميس، 25 أبريل 2024
التوقيت 01:22 م , بتوقيت القاهرة

الـسـيـدة الـتـي في الـركــن

كَـبُرَ الصغير، وعاد الغائب، وتداعى من له ومن ليس له. اِنجَابت عن حيطان البيت العالية مَسحة الحزن المُصطنعة، وبدا الجميع في كامل جاهزيتهم للتوثُّب، وقطف بعض الأرباح المُنتظرة التي يجلبها الرحيل. كانت السيدة الكبيرة مكومة على الكنبة في أقصى الصالة، في ركن مهجور لا يصله الضوء، بجوار الملابس المغسولة، وقد اتحد هيكلها النحيل مع القمصان والسراويل والفساتين وملاءات الأسِرة، في تجانس لا يخل به سوى بعض الحراك البسيط للشهيق والزفير من صدرها؛ كانت عيونها تجول في جنبات البيت، وكأنّها ترى المكان للمرة الأولى، يسفر عنها في ظلمة الركن، وميض حبات مسبحتها الكهرمان، ونحنحة واهنة مع سعال خفيف، تتواتر حشرجاته بين حين وآخر، دون أن تدركه أسماعهم المنشغلة بتقسيم كل ما تبقى لها من الذكرى.


مروا من أمامها، إلى حيث حجرة الضيوف العتيقة، مروا دون أن يعيرها أحد التفاتة صغيرة، أو يتذكر إلقاء السلام على السيدة المختفية وسط غسيل الأمس، فالكبار لا يعلمون عن أمرها شيئا سوى أنها السيدة أمهم، التي ينبغي أن نقدم لها الطعام والماء والدواء؛ كي تبقى على قيد الحياة، وهي السيدة التي اصطحبوها قبل سنوات في رحلة من رحلات عُمراتهم العديدة كي يثبتوا لأنفسهم؛ كم هم بارين بالسيدة التي عاشت أكثر مما ينبغي. أمّا الصغار فلا يعلمون عن أمرها شيئا سوى أنها السيدة جدتهم التي لابد أن نصرخ بجوار سماعات أذنها كي تسمعنا.


دفعوا بعنف الباب الجرار للحجرة الكبيرة المواجهة لعيونها، ليصطدم بالجدار ويعود إلى مغلقه مرة أخرى قبل أن يوقفه أحدهم بقدمه. انفتحت أمام عيونها حجرة الصالون الواسعة التي لم ترها منذ زمن بعيد. تتابعت أنفاسها المشتاقة. كانت عيونها تجاهد كي ترى تفاصيل الحجرة التي أبدعت كل تفاصيلها في سنوات العمر الجميلة، استطاعت من ركنها القصي أن ترى الأثاث الحبيب إلى قلبها، والبيانو، وقد غطاه التراب وأشياء بلا قيمة بعدما تحول إلى طاولة أو رف مقتنيات. اندلع في صدرها شوق غامض، وهي تختطف طلة سريعة على الستائر والأرضية الخشبية المتربة، اشتمت رائحة أيامها الغاربات، وأشرقت في لحظة سنوات يانعة من عمر وصل إلى آخر مرافئه.


 كانت رؤوسهم ورقابهم المحكمة برباط العنق؛ تبدو في لمعة رخام المائدة التي نُظفت للتو كي تستقبل الشاي والعصائر لجلسة التقسيم. جلسوا في مواجهتها يتوسطهم محاميهم الأكول. رأت وجوههم العابسة في زجاج الباب الجرار، كأنها تهويمات لأشباح غامضة تسطو على المكان. ترامت إلى سماعات الأذن أصواتهم المعدنية مع أزيز تيلفوناتهم، تعلو حينا وتخفت حينا مختلطة بعراك أطفالهم، وهم يتقافزون بأحذيتهم فوق كراسي الصالون الأوبيسون طراز روميو وجوليت الذي طالما نال إعجاب وحسد رفيقاتها في الأيام الخوالي. دارت عيونها في أشياء المكان، في وجوههم الجامدة وعيونهم الشرهة، في أحذيتهم اللماعة، وصغارهم الذين يلهون بكل شيء عزيز وحبيب.


مرت لحظات ثقيلة من الخوف والدهشة والتذكر، قبل أن تنتزع نفسًا عميقًا، وتصل بعيونها إلى الحائط البعيد لحجرة الضيوف المشرعة أمام ناظريها، حيث صورته بإطارها الخشبي الحائل؛ يبدو شابا وسيما، يرتكز بذقنه الحليقة على قبضته القوية ويبتسم للجميع من بعيد، من زمن سعيد، مرسوم بالأبيض والأسود، ابتسمت: يا إلهي "الأبيض والأسود" لونان وحيدان يحملان للقلب المكلوم كل بهجة الألوان، لونان وحيدان يتوارى أمام دفئهما قوس قزح بكل بهرجاته، لونان وحيدان يضرمان في القلب بهجة لا تؤججها كل كرنفالات الدنيا، كيف يمكن للأبيض والأسود أن يشعلا كل هذا الفرح في روح تناساها الفرح، وانصرف عنها المحبون؟


 صورته إنه هو ذلك الرجل الذي أبحر بها ورسي، وحلـق بها وحط، وطاف بها على على كل نجم، ثم بعثر في سنوات عمرها الورد والحلوى وحبات الأمل. إنه نفس الرجل المرسوم بالأبيض والأسود داخل الإطار، رجل سنوات السكر والملح، صانع كل أفراحها وفارس قلبها المتوج. تنهدت: يا رب اللقاء والفراق، كم أشتاق إلى أنفاسه ونبرة صوته ووثوق ملامحه.


استندت برأسها إلى الجدار البارد، وهي تطيل التحديق في قسماته الطيبة. ضحكت له، ضحك لها، مدت يديها إليه، أمسكها برقته المعهودة وترك قبلته عليها. جعلا يتفقدان بيت العمر، لامسا الجدران والأثاث وأفاريز الشرفات، مسحا التراب عن لوحة مقلدة لرينوار تصور حفلا باريسيًا، ولوحة  لآية الكرسى مكتوبة بحروف مذهبة. دلفا إلى حجرة المكتب تتوسطها صورة للعائلة والأولاد صغار، تذكرا الصورة واستديو إيزاك بستاني بشارع سليمان باشا، مرا على حجرة النوم، ومنها الى المطبخ، حزنا للفوضى التي أحدثتها سيدة البيت الجديدة بالشقة. في الشرفة لم يجدا النباتات التي اعتادا سقايتها كل صباح، لم تكن هناك عصافير تحت المظلة القماشية، كانت كل الشرفات المجاورة قد تحجبت خلف أقفاص قبيحة من الألومنيوم.


 ذكرها بحكايات كثيرة عن الصغار الذين كبروا، ذكرها بالنجاحات الصغيرة في الزمن الجميل، الديون التي سددها الصبر والدعاء، ترقيته في وظيفته، نجاح الأبناء في الثانوية العامة، الصدمة لرسوب أوسطهم، أيام تجنيد الولد الأكبر وضجره من صحراء السويس، قصة الحب الفاشلة للابنة التي كسر ابن الجيران قلبها وتزوج صديقتها، تذكرا المصاغ العزيز الذي باعاه لصائغ انتهازي كي يدفع الولد الأكبر مقدم شقة. زيارات الأعياد إلى الأهل في المنصورة، الصيف في رأس البر فى زمن رأس البر، فيلم ( صوت الموسيقى ) في سينما بمصر الجديدة أصبحت سوبر ماركت: 


"كم كانت جولى أندروز رائعة وملائكية مثلك.." هكذا قال لها بعد الفيلم.


أمسك بيدها احتضنت أصابعه أصابعها، انفرجت السماء ودارت النجوم في مدارات من أثير على عزف فالس كوني، أدار لها "إنت عمرى"، راقصها وهو يضمها إلى صدره الدافئ، وأم كلثوم  تنظر إليهما فى حُبور وتعيد مرات ومرات من أجلهما وحدهما:


هات إيديك ترتاح في لمستهم إيديا ... 


 أطلا من خلف الستائر على القمر الجرىء مفتوح العينين، شاهداه وهو يشتبك مع نجيمات منتشية. حلقا سويا، أطلا على زمن بلا هوس، بلا غضب. أطلا على شوارع حانية، وبشر باسمين. مروا على كل المدائن، في رحلة من هلام، جابا خلالها كل بساتين الذكرى قبل أن تعود إلى ذراعيه مرة أخرى، وتطيل النظر إلى عينيه الحانيتين وهى تردد : 


إنت عمرى اللى ابتدى بنورك صباحه.. إنت عمري ... 


عادت عيونها تبحث عن القمر الجرىء من فرجة بالستارة. كان القمر في محاقه البللوري يوشك أن يتآكل كقطعة ثلج افترستها شمس مفاجئة، وكانت النجوم تخبو رويدا رويدا، بينما الذكرى تتفلت من بصيص الذاكرة. تعلّقت بذراعيه فى رجاء وتوسل، وهي ترى الألق القمري يتلاشى. حاول أن يقبض على يديها، حاولت أن تقبض على يده وهو يتطاير ويتذاوب فى المدى القمري. حاولت أن تجمع قسماته وأنفاسه في صدرها، حاولت عاجزة أن تمسك باللحظة المراوغة، تباعدت ملامحها شيئا فشيئا،غاصت روحها في تغضنات الوجه وتعرقات اليد، توارت خلف زجاج نظارتها السميك وهي تستعيد يدها الممدوة إلى اللاشىء.


عادت بعيونها إلى الحائط البعيد بحجرة الضيوف، حيث صورته بالأبيض والأسود بإطارها الخشبي الحائل وهو يبتسم. اختطفت نظرة أخيرة على الرجل الذي رحل بثلاثة أرباع روحها، وترك لها أياما موحشة، وبشرا كأقفاص الألومنيوم أو أشد قساوة، كان رجع صدى صوت أم كلثوم  يتصاعد في زوايا الذاكرة:


رجعونى عينيك لأيامي اللي راحوا...


دارت عيونها في الجدران وتلال الملابس التي تحاصرها: 
"هذه ليست أيامي، هذا ليس زماني، لقد ماتت نباتات الشرفة، ورحلت العصافير، وتلاشى صوت أم كلثوم فى سديم من الدخان، وضجيج الميكرفونات وصخب الوجوه العابسة". 


أنت عمرى اللي ابتدى بنورك صباحه.. إنت عمري ...


نظرة أخيرة على صورة بلا حياة وإطار بلا عمر، ما زال يبتسم على الحائط، بسمة تنتظر الجواب، وحضور أقسى منه الغياب. مروا من أمامها وقد فرغوا من جلسة تقسيمهم، مروا إلى الخارج وقد امتلأت عيونهم بمزيد من التراب، وتدلت كروشهم أكثر فأكثر، وفي أثرهم تبعهم أطفالهم قفزا على حبات عيونها. دفع آخرهم باب حجرة الصالون الجرار بعنف؛ فأغلق بقايا العمر الجميل أمام عيونها؛ ليرين على المكان صمت وهزيم أنست إليه، وهي تفر في عصبية خرز المسبحة الكهرمان، قبل أن تعود وتتكور وتختفي وسط الملابس المغسولة المكومة على الكنبة في أقصى الصالة. 


( من المجموعة القصصية للكاتب "هذه المسافة" قيد الطبع )