التوقيت الثلاثاء، 30 أبريل 2024
التوقيت 03:29 ص , بتوقيت القاهرة

حقائق أخرى لأهل الكتاب

شهد معرض الكتاب هذا العام، والذي أقيم تحت شعار "تجديد الخطاب الديني"، إقبالًا كبيرًا من المواطنين مقارنةً بالأعوام القليلة السابقة. وقد استخلص عددٌ لا يستهان به من الكتاب النابهين والصحفيين اللامعين من هذه الحقيقة عدة حقائق أخرى، يدفعنا التصديق بها إلى الاطمئنان على مستقبل هذا الوطن.


لقد رأى هؤلاء الكاتبون في الإقبال الكبير على معرض الكتاب انتفاضةً محمودةً للشعب المصري ضد أفكار التخلف والظلام والجهل. كما وجدوا في استجابة زوار المعرض للإجراءات الأمنية عند بواباته تحديًا مؤكداً للإرهاب الغاشم وتهديداته. ولم يفُتهم التأكيد على أن الشعب المصري محبٌ للنظام إذا واتته الفرصة، ومولعٌ بالثقافة إذا قُدمت إليه بسعر ملائم.


وأي شخص محب للوطن والثقافة لا مصلحة له في معارضة هذه "الحقائق المستخلصة" أو التقليل من شأنها، لكن هذا الحب ـ كأي حبٍ آخر ـ لا ينبغي أن يمنعنا عن طرح حقائق أخرى.


الحقيقة الأولى: رغم أن معرض الكتاب قد أقيم تحت شعار "تجديد الخطاب الديني"، إلا أن الكتب التي عرضت في أجنحته المختلفة لم تقتصرُ على الكتب التي تعنى بتجديد هذا الخطاب. فكل من ذهب إلى المعرض لابد وأنه قد لاحظ اكتظاظ الأرفف بكل أنواع الكتب. فقد عرض الناشرون الكتب العلمية والأدبية والتراثية والدينية، كما عرضوا الكتب المكتوبة باللغة الأجنبية والكتب المترجمة.


ولم يوضح أيٌ من هؤلاء الناشرين لزوار جناحه أياً من كتبه يجدد الخطاب الديني وأيها لا يفعل. كذلك لم يوضح باعة الأطعمة والمشروبات لزبائنهم من زوار المعرض أيا من بضاعتهم من شأنه أن يجعل المرءَ أكثر استنارة.


الحقيقة الثانية: لا أحد يمكنه التحديد على وجه اليقين موضوعات الكتب التي لقيت إقبالاً أكثر من غيرها. ولعل الصعوبة البالغة في هذا التحديد تعود إلى طبيعة الكتب ذاتها، كما تعود إلى عادة أغلب القراء في تصنيف الكتب. فكتب العبقريات للعقاد مثلاً قد يشتريها البعض ككتب في التاريخ الإسلامي، بينما قد يشتريها البعض من القراء رغبةً في زيادة الحصيلة اللغوية والاستمتاع بأسلوب الرجل الأدبي.


وقد يقرأ شخص ما سيرة العالم "أينشتاين" لولعه بالمشاهير والناجحين ونوادرهم، بينما قد يقرأها شخص آخر في محاولة للتعرف على نمط تفكير اليهود في القرن العشرين. ولن تعدم شخصاً ثالثاً يقرأ ذات السيرة لاهتمامه بعلم الفيزياء. وهذا التنوع في فهم القراء لأغراض الكتب وما تحتويه لا يقودنا حتما إلى تأكيد أو نفي رغبتهم في تجديد الخطاب الديني أو تجديد أي خطاب آخر.


الحقيقة الثالثة: لا أحد يمكنه أن يعلم الأسباب وراء قراءة الناس للكتب. والتباين الشديد في محتوى ومستوى الكتب ومضمون الكتب التي يقرأها الناس لهو أكبر دليل على ذلك. فهناك من يقرؤون بدافع الاطلاع واكتساب المعرفة دون انتظار أن تعود عليهم تلك المعرفة بأي نفع.


وهناك من يقرؤون حباً في الاطلاع والمعرفة أيضاً، وفي ذات الوقت حباً في الظهور بمظهر متميز وسط أقرانهم. وهناك من يقرؤون الكتب لأن طبيعة عملهم تتطلب الاطلاع الدائم كالكتاب وأساتذة الجامعة والطموحين من الصحفيين.


وهناك من يمضون أغلب أوقاتهم في القراءة لأنهم لا يملكون شيئاً آخر يفعلونه. وبالطبع يقرأ كثير من الناس بدافع التسلية، ويتساوى في هذا النوع بالذات من يقرأون الروايات العاطفية الساذجة أو الناضجة مع من يقرأون عن تاريخ الفلسفة أو تطور علم الهندسة الوراثية. وليس من حق أي شخص ـ مهما بلغت معرفته ـ أن يدعي أن أياً من الدوافع السابقة أو غيرها لقراءة الكتب يؤدي إلى ازدياد وعي الإنسان وتفتح عقله أكثر من الدوافع الأخرى.


الحقيقة الرابعة: لا يعني زيادة الإقبال على زيارة معرض الكتاب أن كل من زاره قد ذهب من أجل شراء الكتب التنويرية. فهناك أسر ذهبت للتنزه وشراء الكتب المدرسية بأسعار مخفضة للتلاميذ من أبنائها.


كما وجد طلاب الجامعات في المعرض فرصة طيبة لشراء المراجع العلمية الباهظة الثمن بنصف أثمانها. وكثيرون ذهبوا للمعرض من باب الاعتياد دون أن يشتروا كتاباً واحداً. فليس كل من يذهب لمعرض الكتاب ملزمٌ بشراء الكتب، كما أن ليس كل من يزور معرض السيارات مطالب بشراء سيارة؛ خاصةً وأن ثمن تذكرة الدخول لم يتجاوز جنيهًا واحدًا.


الحقيقة الخامسة: رغم انخفاض ثمن تذاكر دخول المعرض، إلا أن عدد من زاره من الناس يقل كثيراً عن عدد من يجيدون القراءة في القاهرة. وقلة عدد الذاهبين نسبة لعدد القاطنين بالعاصمة لا يعني استهانة الناس بالكتب أو بالمعرض، لكنه لا يعني أيضًا انتفاضة شعبية ضد الجهل والتطرف أو انتفاضة ضد أي شيء آخر.


إن إيراد الحقائق الخمسة السابقة لا يهدف أبدا إلى التقليل من قيمة معرض الكتاب وما بذل فيه من جهد. فلابد لدولة تعاني من التأخر أن تحرص على نشر عادة القراءة بين مواطنيها. ولابد لثقافة تود البقاء أن تحارب من أجل نشر قيم التنوير والحداثة. لكن اعتبار مجرد الزيادة في الإقبال على معرض سنوي للكتاب مؤشر على أن الثقافة بخير، لهو أهم مؤشر على أنها ليست كذلك.


إن معرض القاهرة الدولي للكتاب يقام منذ ستة وأربعين عامًا. وقبل أن يقام معرض الكتاب، ومنذ أن عرفت مصر المطبعة، نُشرت آلاف الكتب التي تدعو للتنوير والتقدم وتعمل على رفع الوعي وتوسعة المدارك. ونُشرت أيضاً آلاف الكتب التي تكرس الجهل والخرافات، والناس فيما يقرؤون كحالهم فيما يعشقون، مذاهبُ.


من حق أهل الكتاب أن يروا في الثقافة والكتب الحرة (التي يحبون هم قراءتها وكتابتها)، السبيل الأهم للنهضة. فأصحاب كل مهنة يرونها الأهم في تسيير عجلة التاريخ وتوجيه دفته. ومن حق المواطن أيضاً أن يرى في الكتب نافذةً للمعرفة أو وسيلة للتسلية. من حقه أيضاً أن يرى في الكتب ضرورة حيوية أو رفاهية يمكن الاستغناء عنها. فالكتب الحرة سلعة والقارئ زبون، والزبون دائماً على حق.


ومن الحقائق التي نتجاهلها جميعاً عن عمد أن أغلب من يجيدون القراءة لا يقرأون في حياتهم غير ما تجبرهم الدراسة على قراءته من كتب. ربما لو اهتم أهل الكتاب بتشكيل جماعة ضاغطة وخلق تيار مستمر للنظر في الكتب المدرسية التي يقرأها التلاميذ ـ رغماً عنهم ـ لينالون شهادات نجاحهم، لكان ذلك أوفق من لوم المجتمع على ضيق أفقه.


كل من يذهب للمدرسة يقرأ كتباً في التاريخ واللغة والأدب والدين والمعارف العامة. وما نتعلمه في المدرسة في السن الصغيرة يثبت في وعينا وذاكرتنا حتى نُواري التراب. في السن الصغيرة تتشكل رؤيتنا للعالم وفهمنا لهويتنا وتاريخنا.


ولو حرص أهل الكتاب من المثقفين على أن تشتمل كتب النشء على قيم التنوير والإنسانية أكثر مما تشتمل على قيم الشوفينية وتقديس الماضي، لربما وجدنا الخطاب الديني يتجدد من تلقاء نفسه، بعد جيل واحد.


وربما يكون كل ما سبق أيضاً من قبيل التفكير بالأماني وتحميل الحقائق أكثر مما تحتمل، تماماً كشأن من وجهت لهم نقدي.