التوقيت الأحد، 12 مايو 2024
التوقيت 07:09 ص , بتوقيت القاهرة

مقال ليس عن مهرجان برلين

كنت أستعد لكتابة مقالي الأسبوعي لـ "دوت مصر" من مقر إقامتي في العاصمة الألمانية "برلين" لمتابعة فعاليات مهرجان "برلين" السينمائي الدولي الخامس والستين. اخترت موضوعا مناسبا عن أفلام المهرجان، وأعطيت نفسي ساعتين استرخي واستجمع فيهما أفكار المقال خلال متابعتي لمباراة كرة القدم بين الزمالك وإنبي في الدوري المصري.


لا داعي للتذكير بالطبع بالفاجعة التي وقعت خارج استاد الدفاع الجوي، في أول يوم كان يُفترض أن يحتفل جمهور الزمالك فيه بعودته للتشجيع من المدرجات، فتحول الفرح إلى مأتم، والدوري تم إيقافه كالمعتاد لأجل غير مسمى، والآراء انقسمت كالمتوقع بين الراديكالي الذي يلقي كل اللوم على الشرطة، والمبرر الذي يلقيه على المشجعين، ومن يحاول تلمس العقلانية بين هذا وذاك.


باختصار، حدث ما يحدث في كل مرة، نفس الجدل الأحمق والانطباعات الصارخة، والانشغال المتتالي بكوارث صارت جزءًا لا يتجزأ من تفاصيل الحياة اليومية في مصر. دوامة ضخمة من الفواجع في وطن تحول خلال أربع سنوات إلى مكان تجتمع فيه أسوأ أشكال الحزن والألم والوضاعة والمتاجرة، فتتضافر للقضاء بشكل دوري على كل فرصة للاهتمام بشيء آخر غير سماجة السياسة وملحقاتها.


لم يعد بالطبع هناك داعٍ للكتابة عن أفلام برلين، فمن سيهتم خلال ال48 ساعة المقبلة التي سينشر فيها المقال بأي شيء بخلاف ما حدث خارج الملعب (وليته اهتمام بمن سقطوا قدر كونه اهتماما بتسييس الوضع والخروج منه بالقدر الأكبر من الاستفادة). ناهيك بالطبع عن أن كل ما كنت قد رتبته في ذهني للكتابة قد ذهب دون رجعة، وصعد بدلا منه سؤال واحد مُهيمن: ما هو الحل؟


ما هو الحل في أزمة أعيشها ويعيشها آلاف آخرون، زهدوا المناقشات السياسية الممجوجة، وكرهوا تضييع أعمارهم في جدل لن ينتهي، يريدون فقط أن يعيشوا بشكل طبيعي ويمارسوا الأشياء التي تسعدهم. شخصيا أحب السينما والكرة، وكلاهما تحول لاهتمام من الدرجة الثالثة، يستخدم لملء فراغات البرامج الحوارية، وكل بادرة أمل في استعادة أي من الأمرين لجزء بسيط من تواجده في وعي المصريين وممارساتهم اليومية، تتحطم سريعا على صخرة واقع أحمق صرنا مجبرين على معايشته.


هل الحل هو الهجرة؟ ترك البلد بكل ما فيها والبحث عن مكان جديد؟ إذن فماذا يفعل من لا يريد الهرب وترك بلده تمزقها الحماقة؟ ماذا يفعل من يرتبط عمله بثقافة وطنية سيفقد نصف قوته لو قرر العمل خارجها؟ ماذا يفعل من لا يملك فرصة للهرب من الأساس؟ وقبل كل هذا، ماذا يفعل من لا يستطيع أن يعيش بعيدا عن بلده؟ من لا يمكنه إلا أن يشجع الزمالك ومن يعرف أنه لن يجد عادل إمام في مكان آخر غير مصر؟


هل الحل هو التربح من الوضع الحالي؟ بأن يتحول المخرج إلى مخرج وناشط؟ يداعب المانحين وصناديق الدعم بموضوعات عن السياسة فيسيل لعابهم لتمويلها؟ هل يفعل مثل المخرجة الشابة التي عرفت قبل أيام بمحض الصدفة في سوق مهرجان كليرمون فيران أنها أخبرت مؤسسة فرنسية تتعامل معها أنها قد تعرضت للاعتقال في مصر، رغم أن هذا لم يحدث على الإطلاق، ولكل شخص الحرية في تفسير هذه الكذبة الغريبة؟ إذا فماذا يفعل من يحبون الفن المجرد، السينما الإنسانية التي لا تتاجر بقضية ولا ترفع شعارات سياسية؟ ماذا يفعل من يريد أن يتنفس هواءً نقيا خاليا من الكذب والمزايدات وادعاء البطولة والشهادة؟


على الأقل كاتب هذه السطور محظوظ، يقضي ثلث أيام العام خارج مصر يتابع مهرجانات سينمائية لا يهم ما يحدث فيها إلا عشرات القراء، معظمهم ينصرف رغما عن إرادته عما يحب كلما حدثت كارثة جديدة، لكنّي في النهاية أتنفس ولو قليلا، وأعقد مقارنات بائسة بين مدينة مثل برلين ينام فيها الشباب حرفيا أمام شباك تذاكر المهرجان حتى يصبحوا أول من يقف عليه في الصباح فيجدوا تذاكر لأفلامهم المفضلة التي ستنفد مقاعدها إذا ما قضوا الليلة في منازلهم، وبين مدينة تفشل حتى في تنظيم مباراة كرة يحضرها خمسة آلاف شخص!


هذا المقال بالمناسبة ينتمي لنوعية كتابات أكرهها، به ذاتية أؤمن أن مكانها دفاتر المذكرات والمراسلات الشخصية وليس صفحات المواقع والجرائد، لكني أشعر أن الهم الذي يحمله أصبح عاما، على الأقل لمن يريدون اقتناص لحظات السعادة، ومن أصبحوا رهن الاعتقال في وطنهم، رهن اعتقال رغبات المستفيدين من المعارضين والمؤيدين على حد سواء. لمن يريدون ممارسة الحياة لكنّهم ممنوعون من ذلك بحكم قدر أحمق جعلنا فئران لتجربة كبرى لا نريد خوضها. فهل هناك من تصور لأي شبهة حل؟ أتمنى ولكن لا أعتقد.