التوقيت الثلاثاء، 23 أبريل 2024
التوقيت 10:44 م , بتوقيت القاهرة

أشغال شاقة بحثًا عن لقمة العيش.. مئات الأطفال يعملون فى ظروف غير أدمية بـ"محاجر شق الثعبان"

تنحني ظهورهم لفترة طويلة فى سبيل إنجاز أعمالهم، يتعرضون للبرودة الشديدة فى عز الشتاء، وسخونة الشمس الحارقة فى الصيف، دون غطاء يحميهم من تلك المخاطر، مواد كيماوية وصخور صلبة يتعاملون معها، وأتربة وغبار جيري يؤثر على أجهزة التنفس لديهم، ويضر بعيونهم الصغيرة، ليصاب عدد كبيرًا منهم بأمراض خطيرة ومزمنة.

فى ساعة مبكرة من الصباح تجد عشرات من الأطفال يفترشون الأرض داخل صحراء محاجر "شق الثعبان" شرق طريق الأوتوستراد فى القاهرة، يعملون بدون تأمين صحي يحميهم من مخاطر العمل، ولا نقابة تتحدث عن حقوقهم وتدافع عنهم، فيتم استغلالهم من قبل أصحاب العمل، مستغلين حاجتهم للمال من أجل الإنفاق على أسرهم، التى تقع تحت خط الفقر، ليلقى كل طفلًا منهم بأحلام طفولته خلف ظهره، ويتجشم ليتحمل المسئولية.                                                       

"عنتر" برائته اغتالتها المحاجر

الطفل عنتر نشأ في كنف أسرة فقيرة تكاد تكون معدمة، حُرم هذا الطفل وأشقاؤه الستة، البنين والبنات، من أبسط حقوقهم في الحياة، لم يعتاد أن يحلم بمستقبل أفضل بعد أن فتح عيناه على الشقي منذ طفولته، تربي على تحمل المسئولية وحمل الهموم التى كسرت ظهره اللين الذي لم يكتمل نموه بعد ويشتد ليتحمل الظروف القاسية بعمله الذي سيق إليه مجبرا، تعلم أن الحياة لا تمنح الفرصة ولا السعادة لمثل من هم فى ظروفة، بكى كثيرا ولم يتعلم كيفية الضحك.

مغامرة محفوفة بالمخاطر

"حياة مريرة مليئة بالألم ولا نستطيع أن نفارقها"..بتلك الكلمات بدأ عنتر أبن محافظة أسيوط والذى جاء إلى القاهرة للبحث عن المال لإعالة أسرته، ويتابع: حظي التعيس هو من أختار لى العمل بالمحاجر منذ سن الـ12 عام، بعد أن تركت المدرسة بعد بلوغ الصف السادس الابتدائي، لأتخذ غرفة مبنيه بالطوب محل لإقامتي برفقة رجال وشيوخ اضطرتهم ظروفهم للعمل بتلك المهنة الشاقة، ما زلت اتذكر الليلة الأولى فى تلك الغرفة التى استلزم الوصول إليها ساعة من الوقت داخل بطن الجبل لأسخر من سذاجتي فكنت أظن أنا منزلنا هو أسوء مكان على وجه الأرض "

"تعودت أن أغامر بحياتي من أجل لقمة العيش، حاولت أن أتحمل إهانات العمال الأكبر سنا والتعرض للضرب ومحاولة سرقة اليومية التى اتقاضاها واستغلالي لأداء اعمالهم، بخلاف المجهود البدنى الشاق الذي يفتك بجسدي ويتركني أعاني من ألام العظام التى لا تؤثر فيها المسكنات التى اعتدت تعاطيها".. قالها عنتر وهو يشعر بالفقد للمرة الأولى لكل ما خلفه وراءه من ذكريات رغم سنوات عمره القليلة.

وأضاف: أشتد عودي واعتاد جسدي على الالم وحمل الهموم، كنت استيقظ فجرًا أذهب للعمل فى المحجر على ظهر سيارة نصف نقل برفقة زملائي محاولا التأقلم على الإمكانات المتاحة. 

 يتردد عنتر على منزل أسرته بأسيوط التى تبعد عن القاهرة مسافة 321كم، كل 3 شهور وأحيانا فى الأعياد فقط، ورغم حنينه الجارف لوالدته إلا أن دافع عدم ايجاد عائلته مصدر رزق مع مرض والده العاطل عن العمل بسبب مرضه يحثه على التحمل طوال الاربعة سنوات الماضية.

وبنبرة يائسة يتحدث عنتر عن راتبه الذي قدره له صاحب العمل- الذي يتقاضى مئات الألاف، أنه يتحصل بعد أكثر من 16 ساعة على 150 إلى 250 جنيه يوميًا حسب انتاجه وقدرته على الصمود فى عدة ورديات ليضاعف اليومية.

ويؤكد عنتر: " نتعرض لكثير من المخاطر تحت المناشير وعلى الطرقات، أصبت عدة مرات وفى كل مرة كاد صاحب العمل أن يتخلى عنى ورفض منحى ولو تعويض صغير يساعدني فى الأيام التى اقضيها بدون اليومية وتهديده بطردي لتوفير مكان لعامل أخر، لأضطر للنزول للمحجر للعمل.

وأكد عنتر: "أتمنى أن تتاح لى الفرصة لترك العمل وأجد وظيفة أخري أنفق منها على أشقائي"، مرددا: " أنا بتعب كتير والمسكنات بطلت تجيب نتيجة والشغلانة بتاعتنا خطرة زى الأشغال الشاقة اللي فى السجن، وببقي خايف أموت وأسيبهم ساعاتها مش هيلاقوا حد يصرف عليهم".

ترك المدرسة لحل مشكلة مالية

محمد وشقيقه حسن اضطروا لترك المدرسة واللجوء للعمل بحثا عن حل لأزمة والدتهم المالية بعد وفاة والدهما.

"التعليم في الصغر كالنقش على الحجر"، فكل ما روه الطفلين من أهوال في مرحلة مبكرة من عمرهم يصعب ويستحيل عليهما نسيانه، بداية الفقر والحرمان والإهانة التى عانوا منها، والظروف الصعبة التى لم تسمح لهما أن يعيشا طفولتهم، حتى كتبت صفحة نهايتها بتحملهما مسئولية الأسرة، والانتقال للعمل فى المحاجر".

ويروى محمد تفاصيل معاناته: "نعمل ساعات طويلة حتى نجني مبلغ بالكاد يكفي احتياجاتنا فى ظل الأجور المتدنية التى يفرضها أصحاب المحاجر لاستغلال ظروفنا، فنتقاضى من 90 إلى 170 بحسب الانتاج، وأضطر للعمل ساعات اضافية حتى احافظ على معدل ثابت يوميا لأحافظ على مكانى، فالعمل داخل المحاجر لا يتطلب خبرات ويوجد غيري الكثيرين المنتظرين لانتهاز الفرصة ليحلوا بدلا مني، وأحيانًا إذا انتجت كمية كبيرة يرتفع الأجر فى مقابل ارتفاع المخاطر والاصابات".

ويضيف: "شبح الاصابة بعاهة مستديمة تهدد جميع العمال وخطر الوفاة وارد جدًا، حتى عندما نصاب لا يتكفل صاحب العمل بنفقاتنا ونضطر إلى العودة للعمل رغم الإصابة، حتى نوفر الاحتياجات المالية لأسرنا".

 ويضيف الشقيق الأصغر حسن البالغ من العمر 13 عام: "بنزل مع أخويا ورغم إنتاجي القليل وتقاضى 90 جنيه فقط، ولكن ذلك المبلغ يساعدنا على سداد الديون المتراكمة علينا، معاناتي ليست صعوبة العمل ولكن الحساسية التى اصابتني بسبب الأتربة، وهذا حال الكثير من العاملين فى المحاجر، والذين أصيبوا بأمراض فى الصدر والرئة والعين".

"بعد يوم شاق ومتعب ومع دقات الساعة الحادية عشرة مساءا نعود للغرفة التى نمكث بها، وهناك نسمع دعوات والدتي لي وشقيقي بالعودة مجددا لها وأن يحمنا الله من المخاطر".. كلمات قالها الطفل حسن بتأثر بالغ. 

ورث عمل والده فى المحاجر

توقف عقل الطفل "يوسف.إ" صاحب 14 عام، للحظات عن التفكير ثم بادرنا قائلا: "والدتي تكرر دائما بأنني رجل المنزل وبتضربني لو شكيت من تحمل المسئولية، لتجبرنى على ورث الشيء الوحيد الذي تركه لى والدى وهو العمل فى المحاجر بدلا منه، وبالرغم من وفاته أثناء العمل وتهرب صاحب المحجر من المسئولية والقائه مبلغ لم يتعدى ألف جنيه فى وجهنا، لم تخشي على ولو للحظة وواجهتني بصارمة.

ويضيف: "أتشح منزلنا بالسواد بعد فقدان عائلتي العائل الوحيد، ووجد نفسى مضطرا للعمل والسير فى نفس مصيره وتوفير الحياة لأسرتي المكونة من 5 أفراد لأرث معاناة والدى.

قال الطفل العمال مهددين بالموت فى كل ساعة تحت الحجر البلوك، أو المنشار، أو فى انقلاب سيارة أو حادث تصادم.

يعمل الطفل "يوسف" فى ظروف وساعات عمل أكثر مما يحددها القانون أو يتحملها البالغون، يقول: "أول يوم جئت إلى الجبل منذ عام عقب وفاة والدي، وأتقاضى الآن ما بين (120 و150) جنيه تكفي بالكاد مصروفات البيت".

ويضيف: "ساعات كتير بشتكي من وجع فى ظهري، وبحس بضيق فى التنفس من العفرة والتراب فى الجبل، بس هعمل إيه؟ لقمة العيش مرة".

ضرب واعتداء لفظي

 أحمد طفل يبلغ من العمر 9 أعوام فقد طفولته مبكرا عندما جاء برفقة والده بحثا عن لقمة العيش فى محاجر شق الثعبان، ليحمل الهم مبكرا ويفقد طفولته وسط الغبار والدخان، حيث يستيقظ فجرًا ويذهب للعمل من الغرفة التى يقطن بها برفقة 11 عامل أخر.

تتآكل أصابعه من العمل، وهو يعمل أكثر من 10 ساعات متواصلة، يتعرض للتنمر من العمال والأطفال، وصاحب العمل الذى كثيرا ما يعتدى عليه بالضرب، ليتحول بدنه لهزيل ويعانى من حساسيه مزمنة، مقابل أجر بسيط يكاد يكفي بالكاد لحصولهم على قوت يومهم.

"لا يخلو محجر من الأطفال..مشاهد رصدتها اليوم السابع ".. ليرد صاحب المحجر الذى يعمل فيه "أحمد" عندما سألناه عن الطفل بعبارة مقتضبة ونبرة غليظة.." شغال وزى الفل وما عندهمش مشاكل" رغم أن عمر الطفل لم يتجاوز الـ 9 سنوات وأشار لنا بالخروج من المكان.

 محمد لا يرى شيئًا فى الليل

يعاني محمد البالغ من العمر 12 عام من محافظة المنيا من إصابته بمرض فى الاعصاب يجعله غير قادر على الرؤية فى الليل، حيث يعمل فى الصباح على ماكينات تقطيع الصخر بالمحاجر، وهى ما تشكل خطر يلاحق أطراف أصابع الأطفال ويهددها بالبتر حال الاصابة، وأحيانًا يضطر لاستخدام أدوات صعبة الحمل لصغر سنه، رغم أنه غير قادراً على تحمل مهام وقسوة العمل.

ويؤكد: "طفولتي سلبت منى، أتعرض لسوء المعاملة والعنف الجسدي واللفظي من جانب أصحاب العمل، أعمل فوق الـ 10ساعات متواصلة.

ويتابع: "بسبب مرض والدي أجبرت للنزول للعمل، وعندما اقترحت عليه العمل بالإجازة، قال لى بإن المدرسة لن تفيدك كما تتعلم حرفة وتتقنها".

ويشير محمد أنه كثيرا ما يضطر لتعاطي بعض الأدوية المنشطة –بالجدول- حتى يستطيع تحمل مشقة العمل، وأن العمال يساوموه على بيعها له مقابل أعمال غير مشروعة".

ويضيف: "شكوتي وبكائي لم يشفع لى لدى والدي، وكل ما فعله أنه أخرج أشقائي الثلاثة من المدارس ودفع شقيقي الذى يصغرني بعامين للالتحاق بي لمزاولة هذه الأعمال الخطرة والمحظورة على الأطفال".

 كريم يجمع الرصاص

يجمع كريم الطفل الصغير صاحب الـ7 سنوات الرصاص من الجبال والمحاجر ويتقاضى 10 جنيهات على العلبة متوسطة الحجم ليساعد والده وأشقائه فى توفير دخل، تحمل الطفل المسئولية وكبر قبل الاوان بعد أن أجبرته ظروف والده على العمل ليأتي برفقته تارك محل إقامته بالمنيا لينتقل للعيش ما بين منطقة البساتين والسكن فى المحاجر.

لم يحالف الحظ الطفل لدخول المدرسة، وأنتقل للعيش برفقة والده فى إحدى الغرف الخالية من الأساس فى حضن الجبل ورغم اشتياقه لوالدته وطفولته المحروم منها يحاول ان يستجمع قواه ويتحمل المسئولية ويخفى دموعه التى كثيرا ما تسيل بسبب تعنيف العمال الاكبر سنا له والاطفال ايضا الذي ينعتونه بـ"العيل" والمجهود الجسدي الشاق.

 ترتسم علامات الأسى على وجه الطفل كريم وهو يروى لنا معاناته: "نتعرض لمخاطر كثيرة، وقد أُصيب زملاء عديدون تحت القاطعات بسبب أنها معدات بدائية وغير صالحة للاستخدام أو بسبب انهيار أحجار من الجبل عليهم، ورفض صاحب العمل علاجهم".

إنفوجراف .. المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية

42% من الاطفال الذين يعملون في المحاجر يتعرضون للعنف والخطورة والاستغلال ليتعرض نصف الأطفال للإصابة في العمل ما بين كدمات وكسور وجروح قطعية‏ واختراق‏ المواد‏ للجسم‏ وصلت‏ في‏ بعض‏ الحالات‏ إلي‏ بتر‏ الأطراف.يعمل 17 % في المسابك وهي‏ أعمال‏ تصنف‏ من‏ بين‏ "أسوأ‏ أشكال‏ عمل‏ الأطفال" .. وتتوزع النسب الباقية على ورش‏ الحدادة‏ وتشكيل‏ المعادن‏ والمدابغ‏ والغزل‏ والنسيج‏ والنقل‏ والتحميل‏.يدفع الأطفال من الأسرة للعمل وينفق 45.4% منهم دخلهم‏ بالكامل على الأسرة، وبنصف‏ الدخل نسبة‏ 10.2%.محافظات‏ القاهرة‏ والجيزة‏ والقليوبية‏ والمنيا‏ وأسيوط والدقهلية.يتقاضى 45.4 % من أطفال المحاجر‏ دخلا‏ يزيد‏ علي‏ 100 جنيه‏، ويتقاضى‏ نسبة‏ 37.8% مبلغا‏ من‏ 50 إلي‏ أقل‏ من‏ 100 جنيه‏، في‏ حين‏ يقل‏ دخل‏ 16.8% عن‏ 50 جنيهاً.‏عدد ساعات تصل الي 16 ساعة يوميا يتخللها ساعة راحة وفي بعض الحالات لا يحصلون عليها. 44 % من الأطفال متسربون من التعليم.رغم‏ التلوث‏ والمخاطر‏ في تلك الاعمال 42.3% من الأطفال لا‏ يرتدون‏ أي‏ ملابس‏ خاصة‏ للحماية‏ نظرا لارتفاع تكلفة تلك الملابس‏ ورفض أصحاب‏ العمل‏ توفيرها.وحسب‏ الظروف‏ لدي‏ 9.4% وهناك‏ نسبة‏ 10.4 % لا‏ تعطي‏ الأسرة‏ شيئا، ورجت الدراسة أن‏ هؤلاء‏ يتكفلون‏ بالإنفاق‏ علي‏ أنفسهم‏ فلا‏ يحملون‏ الأسرة‏ شيئا‏.أعمار‏ الأطفال‏ العاملين‏ تتراوح ما بين‏ 7 سنوات‏ و‏18 سنة‏.