التوقيت الجمعة، 29 مارس 2024
التوقيت 08:27 ص , بتوقيت القاهرة

لماذا تخلفنا؟ دروس مهمة من قصة الطباعة

كان اختراع آلة الطباعة في أواسط القرن الخامس عشر تغييرا جوهريا في حركة التاريخ الإنساني ككل،  كان هذا الابتكار هو صانع المعجزات الكبرى التالية كلها:

1- اختراع الطباعة أتاح للمرة الأولى تحول المعرفة إلى سلعة يسهل الحصول عليها، وتحقق أرباحا للمؤلف والناشر وللقارئ بالطبع،  كانت المخطوطات  تحتاج وقتا كبيرا  للنسخ والتنقيح وتعتمد على دقة الناقل وعلى كفاءة الخطاط،  ولهذا كله فلا يقْدِر عليها إلا من يمتلكون قدرا من الثروة، ومن يملكون مساحات للتخزين، وفوق هذا كله فإنّ قلة عدد النسخ المخطوطة كان يقود في الغالب إلى ضياع كتب كاملة من التراث الإنساني.

2- اختراع الطباعة حول المعرفة والعلوم الدينية والكهنوتية إلى أمر متاح للجميع، طباعة الكتاب المقدس، ومن بعده الكتب الدينية المختلفة، حطم احتكار رجال الدين للمعرفة الدينية، فقد أصبح بمقدور الجميع أن يمتلك نسخته الخاصة من الكتب الدينية، وهذا ما سيقود لاحقا لثورة الفكر الديني التي بدأت بالإصلاح الديني البروتستانتي ثم الإصلاح الديني المضاد في البلدان الكاثوليكية، سقطت القداسة بالضرورة عن رجال الدين وعن الفكر الديني معا.

3- أسقط اختراع الطباعة القدر الأكبر من الثقافة السمعية لتحل محلها ثقافة التوثيق، أصبحت مصداقية المعلومة تأتي من مصدر يمكن الرجوع إليه أو نقد ما فيه، وليس رواية شفهية تتناقلها الألسن بالعنعنة، فينالها ما ينالها من التشويه والتحريف، وغير هذا ثقافة الناس أكثر نحو الموضوعية وبعيدا عن الذاتية.

4- أدى اختراع الطباعة إلى تحويل الدولة القومية إلى حقيقة،  بسبب السعي لاجتذاب القراء والتواصل معهم بلغتهم، خلقت الطباعة باللغات القومية (الإنجليزية- الفرنسية - الألمانية الخ) كبديل عن اللغة اللاتينية الأساس للدولة القومية، ورغم أن اللاتينية بقت لغة مشتركة للعلوم لفترة لكن الكتابات الأدبية ظهرت باللغات المحلية مبكرا وانتشرت نتيجة الطباعة، كما أن الطباعة بقت بعدها أداة وحدة قومية لأنها منعت تفرع اللغات في المناطق البعيدة داخل الدولة الواحدة أو الشعب الواحد، قضي هذا كله علي الإقطاعيات المختلفة، والدوقيات والإمارات، وصعد بقوة  الولاء الوطني ممثلا في التبعية للملك أو العرش وللدولة.

لعله من المفيد هنا أن نوضح أن اختراع الطباعة، الذي قام به يوهان جوتنبرج في ذلك الوقت لم يكن في الحقيقة أول اختراع للطباعة، فالصينيون اخترعوها قبل هذا التاريخ بمدة طويلة ولكن استخدامها ظل محدودا لسببين الأول  تعدد حروف اللغة الصينية مما جعل عملية الطباعة غير سهلة، والثاني أن العملية ظلت مرتبطة بالسلطة المركزية والقصر الإمبراطوري لذا  كانت حركتها بطيئة.

من المآسي المخجلة أن نذكر هنا أنه رغم قرب الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من أوروبا، فلم تُعرف الطباعة إلا متأخرا جدا، فكل أوروبا انتشرت فيها المطابع والكتب في خلال بضع سنوات ثم في الأمريكتين وإفريقيا السوداء التي تم استعمارها مبكرا ( المستعمرات البرتغالية) وشرق آسيا وجنوبها وأوقيانيا، أي أنه حتي أستراليا التي بدأ اكتشافها قبل الحملة الفرنسية علي مصر بسنوات  قليلة عرفت الطباعة قبل بلداننا.

لماذا؟ ليس السبب هو الهراء المعتاد عن سعي الغرب للإيقاع بنا وإبقائنا في حالة دائمة من الجهل، بل السبب هو مستوي إدراك السلطة الظلامية الممثلة في السلطان العثماني وهيئة علماء الدين  وخطورة هذا علي مصالحها.

فقد أصدر بايزيد الثاني  مرسوما  عام 1483 يمنع الطباعة مطلقا بحروف عربية ويعاقب علي ارتكاب هذا الجرم بالإعدام ، ومنذ ذلك التاريخ حتي الحملة الفرنسية علي مصر في 1798  لم يتم طباعة أي كتاب بالعربية فيماعدا سبعة عشر كتابا تم طباعتهم بين عامي 1729-1742 بعد أن علق السلطان أحمد هذا الحظر مؤقتا، وسمح لمطبعة في أسطنبول بالطباعة بالعربية شرط ألا تتم طباعة أي كتاب ديني، وأن يكون اختيار الكتب المطبوعة محددا سلفا، والتي كانت غالبيتها كتب تاريخ، فيماعدا ذلك لم يتم طباعة أي كتاب في الإمبراطورية العثمانية طيلة ثلاثة قرون إلا بالطباعة العبرية أوالأرمنية أو اليونانية أو الصربية للأغراض الخاصة باليهود والمسيحيين القاطنين في الدولة.

ورغم أن الطباعة دخلت مع الحملة الفرنسية، إلا أنها غادرت معهم أيضا ولم تعد إلا عندما أنشأ محمد علي مطبعة بولاق في عام 1820 لتصدر أول مطبوعاتها عام 1822.

الخلاصة هنا ببساطة أن جزءا من أسباب تخلف مجتمعاتنا يرجع إلى كون غالبية شعوبها تعرّفت إلى الراديو والتلفزيون والقنوات الفضائية والإنترنت والهاتف المحمول إلخ دون أن تكون القيم والنتائج التي نتجت عن ثورة الكتب استقرت فيها، مجتمعات المنطقة تم عزلها معرفيا في قطيعة معرفية مرعبة لقرون، لم تعش أثر اختراع الطباعة ولا الكشوف الجغرافية  والإصلاح الديني والحروب الدينية والتجارة مع العالم الجديد والثورة الزراعية، وتحجيم الفقر  والجوع باستخدام محصول البطاطس القادمة من العالم الجديد،  وثورة البخار، وتوسيع حق الاقتراع وإلغاء العبودية الخ.

لماذا تبدو منظومتنا الفكرية دائما وكأنها تعيد اختراع العجلة وتعيد مناقشة البديهيات؟ ببساطة لأننا حصلنا على المنتج النهائي دون المرور بعملية التصنيع، ولهذا يخرج علينا كل يوم من يتصور أنه  يستطيع بالفهلوة إنتاج نفس المنتج بدون مقدماته.

شعوبنا تكاد تكون الشعوب الوحيدة في العالم التي يتصور رأي عام قوي فيها أنه يمكن الوصول لدولة حديثة  بالعودة إلى أفكار  القرون الوسطى، وأن التمسك بالحياة في العصور الوسطي سيقود إلى عظمة وإلى (أستاذية العالم)، ويتصور هؤلاء المبشرون بهذه العظمة أنهم يستطيعون أن يتفوقوا بعد أن يستوردوا مظاهر الحضارة والحداثة محتفظين بجوهر الأفكار المتخلفة.

يتصورون أنهم سيحصلون على ثروة وصناعة ورقي و حقوق إنسان ودولة قوية واختراعات واكتشافات بمنظومة تعادي حرية الرأي والفكر، وتقوم علي ثقافة سمعية، وتعادي الدولة الوطنية، وتعادي رغبة الناس في تحقيق المنفعة لأنفسهم، وتعادي العلمانية، وتناقش أي قضية من منظور تعليمات غيبية فوقية، وتتجاهل أساليب البحث والتدقيق المختلفة، وتحتقر العلم ومنتجاته، بل وتتجرأ باستمرار على حقائقه المؤكدة كالتطور.

أولئك الباحثون باستمرار عن وهم الخلافة، إنما يبحثون عن بايزيد جديد يمنع المعرفة والعلم عنهم ويسجنهم في قاع العالم لقرون، فليس ما تفعله (الدولة الإسلامية) في العراق وسوريا إلا خلافة جديدة وإعادة إنتاج للعصور الوسطى، ربما لهذا يجدر إدراك التشابه بين استعباد العثمانيين للشعوب المحتلة واشتغالهم بالرق والسبي وبين تكرار داعش لذلك، أو بين منع وتحريم الطباعة وبين تدمير الآثار في العراق.

السبيل الوحيد للتقدم هو إدراك الحقيقة البسيطة التالية: ان عالم اليوم أفضل بكثير من عالم الماضي، أفضل للانسان، وأنه لن يجدي البحث عن فترات في الماضي بدعوى أنها ذهبية، فكل الفترات الذهبية في العالم الماضي كانت أسوأ من عالم اليوم، عالم الاستعمار واسترقاق الأفارقة أو الغزوات والقتل أو العصور القديمة وحروب الإبادة أو صراعات العصر الحجري الخ، لن يكون بأي حال من الأحوال أفضل من القرن الواحد والعشرين، لن يجدينا أن نحلم  أن تعود الدولة الناصرية أو الملكية أو دولة الخلافة أو حتى إعادة الدولة الفرعونية الأمل الوحيد هو أن نصنع مصر المستقبل  بالفعل لا مصر القرون الوسطي أوالعصور السحيقة، وتلك مسألة ثقافة تنظر إلى الأمام وليس إلى الخلف.