التوقيت الخميس، 18 أبريل 2024
التوقيت 03:24 م , بتوقيت القاهرة

كذبة الماضي التي قتلتنا

نسمع جميعا أخبارا عن الروبوت ودخوله في مجالات عمل جديدة. في اليابان، مثلا، تستخدم روبوتات على نطاق لا بأس به في الأعمال المنزلية. ومن المتوقع أن يستمر هذا "التريند" وينتشر، وصولا إلى نقطة نعتمد فيها اعتمادا شبه كامل عليها في هذا الجانب من حياتنا.


أين يضعنا هذا من منحنى الاعتماد على الآلة؟


ولا حاجة. مثلنا مثل أجيال سبقتنا. كان غسل الملابس يدويا، ثم صار بغسالة ويحتاج إلى عصير و"نشر" يدوي، ثم صار بغسالة فول أتوماتيك والنشر يدويا، ثم صار بغسالة فول أتوماتيك ومجفف. في كل مرحلة من تلك أراد البشر أن يوكلوا مهمة يمكن لآلة أن تفعلها إلى الآلة، لكي ينعموا بمزيد من الوقت. يستغلونه في الراحة، أو في عمل آخر يدر إنتاجا إضافيا.


ثم لوجدنا "التريند" نفسه فيما يتعلق بأهم "حرف" عمل بها البشر على مدار تاريخهم، حرفتي الصيد، والزراعة. حرف الحصول على الغذاء للبقاء على قيد الحياة. وفي حرف أخرى استخدمها لزيادة ثرواته والدفاع عن حياته، وهي حرفة الحدادة، التي كانت حرفة مرموقة، تعادل في زماننا صناعة "الإنتاج الحربي". حرفة السيوف والدروع والخوذات والبوابات الحصينة.


طيب أنا عايز أقول إيه؟


عايز أقول إن البشر على مدار تاريخهم، يستغنون عن أنشطة، عن عمل كانوا يؤدونه بأيديهم، ويحولونه إلى "آلة" لتقوم عنهم بالمهمة. تعيش أجيال تتذكر ذلك العمل، وفنيته، وجماله، وأوقاته الحلوة. ثم يُنسى بوفاة هذه الأجيال، واستقرار النشاط الجديد كأمر واقع.


انظري كم نلعن الحياة الوظيفية، روتينها وتكرارها الممل، كم ننشر من المقالات عن الأضرار الصحية للحياة الوظيفية. كم نتباكى على أيام المهن "الأخرى"، زمن "الماضي الجميل"، وننسب إليها عكس ما نسبنا إلى مهن الحياة المعاصرة من سلبيات.


أؤكد لك أنه بعد عشرات السنين، سيقول الناس: "يا سلام على أيام ما كانوا بيشتغلوا موظفين، كانت ناس رايقة… إلخ". وذلك أنه، وقتها، وبملاحظة المنحنى الحالي، لن نكون معتمدين على موظفين، بل على كمبيوترات، لقد قطعنا أكثر من 50? من هذا المشوار بالفعل، لكننا لا ندري.


في مصر ستجدين - حتى الآن - من يتغنى بالزراعة، على الطريقة القديمة. تلك هي الأجيال التي حدثتك عنها، الأجيال التي لم تفن بعد. عملوا مزارعين، أو مرحوا في طفولتهم في المزارع، ويعتقدون أن هذه هي الحياة الجميلة. والفن الذي كان أيامها هو الفن الجميل، والعلاقات الإنسانية أيامها كانت جميلة.


لكن - في نفس الزمن الكوني - نستطيع أن ننظر إلى المستقبل، الذي تحقق بالفعل في دول أخرى. نستطيع أن نكون أذكياء ونعلم من الآن أننا لا بد ذاهبون إليه. لماذا؟ لأننا محكومون بالمعادلة الهندسية البسيطة الخاصة بزيادة أعداد البشر بمعدل يفوق كثيرا زيادة الغذاء. وأن أمامنا طريقين لا ثالث لهما: إما تحديث وسائل الإنتاج أو تقليل المستهلكين. إما التطور وإما الحرب لكي يقضي بعض المستهلكين على بعض.


انتبهي. الجملة الأخيرة هي المقصودة تماما هنا. الجملة الأخيرة هي الفيصل بين اتجاهين سياسيين. أحدهما يريد مسايرة الزمن، والآخر هدفه الرئيسي ألا يساير الزمن. ليس هذا هدفا جانبيا، إنما هدف رئيسي. لأن الزمن أتى لهؤلاء بما لم يحبوه. أتى لهم بتفوق آخرين عليهم. أتى لهم بكشف قصور نظمهم الاجتماعية وقدراتهم السياسية والتكنولوجية والعلمية والإنتاجية. الزمن يستلزم منهم المنافسة، وهم يعلمون أن المنافسة على وضعهم هذا صعبة. الحل الآخر هو أن يشدوا الآخرين للخلف، أن يحولوا أنظار جمهورهم من "الوكسة" التي يعيشون فيها إلى الصراع. إلى الانتحار أو الانتصار.


الأول سيريحهم من الضغوط ويعطيهم تاج بطولة ما، والثاني سيوفر لهم غنيمة تسد النقص وتجعلهم ورثة "إمبراطوريات" تعبت وبذلت جهدا. هكذا فعل البرابرة على مر التاريخ.