التوقيت الثلاثاء، 23 أبريل 2024
التوقيت 05:37 م , بتوقيت القاهرة

سؤال عن الحدود (قطع اليد)

بينما أجلس على المقهى أمارس هواية القراءة والكتابة وتأمل البشر والاستماع لأم كلثوم وتناول القهوة، وجدت شابا دون العشرين ينظر إليّ أكثر من مرة، ثم حسم قراره وجاء وصافحني وسألني: حضرتك أستاذ محمد الدويك..؟ 


قلت: نعم.. 


قال لي، الصراحة موضوع الحدود دا محيرني شوية، خاصة حد السرقة وقطع اليد.. القرآن ذكره نصا، بينما لا أحد يطبقه الآن ومن يطبقه يأتي بأضرار وتشوهات اجتماعية ونفسية أشد. وأن منظومة العقوبات الحديثة صارت أكثر صلاحية. فما هو الحل.؟


وكانت إجابتي.. الأهداف أم الوسائل؟


رب العباد قال عن شعيرة الحج في القرآن (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى? كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) رجالا أي مترجلين على أقدامهم. على كل ضامر أي يركبون الحصان ضامر البطن الذي يستخدم لأغراض السفر. 


هل يجرؤ أحد أن يقول إن القرآن حدد طرق الحج في السير على الأقدام أو على ظهور الجياد وبذلك تكون كل طريقة حديثة أو مبتكرة محرمة..؟!


هل ذكرها القرآن على سبيل المثال أم على سبيل الحصر.. ثم، ألم تكن تلك هي وسائل المواصلات المتاحة يومها..! النص على شيء في القرآن لا يعني إغلاق الباب على كل ما عداه. والقصد هو الحج.. تلك هي الغاية أما الوسائل فهي متغيرة وغير مقصودة في ذاتها.


مرة ثانية عندما يقول القرآن (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ ) هل نظل ملتزمين بنص الآية، وتكون التجهيزات العسكرية لدينا مختزلة في الخيول والسيوف والرماح..! ألم تنص الآية على ذلك. أم أن القصد والهدف هو البحث عن كل وسائل القوة التي تمنح الدولة الهيبة والاستقرار والقدرة على الدفاع عن مواطنيها..!


مرة ثالثة يتحدث القرآن عن الذين ( يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ ).. هل الكنز ينحصر فقط عند الذهب والفضة.. وماذا عن الذي يكنز دولار واسترليني ويورو، هل يخرج من دائرة العذاب إذن..! وماذا عن الطائرات الخاصة والفيلات الفخمة التي تصل الى 100 مليون.


عندما يقول لك أبوك ذاكر عشان تجيب مجموع عالي .. فتسأله هل أذاكر على ورق فولسكاب أم ورق زبدة أم ورق كشكول سلك.. وقتها سينظر لك أبوك في ضيق ويقول المهم تذاكر وتجيب مجموع عالي يا مغفل..! وسؤالك يكون مؤشرا على غبائك وسوء تقديرك للأمور وأنه ينتظرك مستقبل مشرف ما دون الـ 50%.


الغباء ليس من الإيمان. بل هو مدمر للدين. ولو تعاملنا مع القرآن بتلك العقلية الضيقة لانتهى أمره وأمرنا.


كذلك الحدود.. فحدود الله هي الجرائم ذاتها وليست العقوبات. حدود الله هي الكف عن السرقة والقتل والفساد في الأرض، وحدود الله هي أن يصل المجتمع إلى الأمان وحفظ الحرمات.


قطع اليد كانت الوسيلة الشائعة لدى الشعوب قبل الإسلام، ولم يستحدثها الإسلام، وكانت سائغة لدى نفوس الناس خاصة في مجتمع ما قبل التنظيمات الإدارية للدولة، ونشوء فكرة السجن النظامي وسبل التقاضي. وقطع اليد معناه غل -منع- يد الجاني عن المجتمع، وتقديم مصلحة الناس على مصلحة فردية لشخص منحرف.


إذن لو استطعنا الوصول للهدف، وهو منع السارق عن الأموال، من خلال منظومة أمنية وعقابية حديثة وأكثر صلاحية من قطع اليد فهو أفضل. مثلما لو توصلنا لطريقة حديثة للحج أسهل وأكثر راحة غير السعي على الاقدام أو على ظهر فرس كما جاء في القرآن نصا.


إذن فالإسلام عندما شرع القطع فهو يشرع لمنظومة العقوبات التي استقر عليها الناس وارتضوها لحماية المجتمع.. الإسلام يقر العرف السائد ويعترف به وأوصى رسوله بذلك (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) والعرف في معناه هنا ينصرف لقانون البلد الثابت والمستقر.


كذلك، وحتى فترة قريبة كانت سرقة حصان في أمريكا تستحق عقابا يتمثل في الإعدام والتعليق على غصن شجرة. حتى يكون عبرة وعظة لغيره، وقت أن كان الجواد هو رأس مال الرجل المهاجر.


المنظومة العقابية تتطور وتتبدل. وهي ليست المقصودة. بل المقصود هو حماية أمن المجتمع وتقليل الجريمة. وطالما نحن لا نتحدث إلا عن الوسائل المؤقتة والفرعية بينما نترك القصد والغاية فسيظل الدين ضائع وحدود الله منتهكة.


وفي عهد الإسلام الأول كان المذنب يقف أمام القاضي فيسأله هل سرقت، قل لا.. فالقاضي هو من يلقن المذنب الإنكار ليكون له شبهة تنجيه من العذاب ويفتح له باب للتوبة والستر والاندماج الحميد في المجتمع، بدلا من صناعة عاهة تقضي على وجوده. وتأصلت قاعدة فقهية أن "ادرأوا الحدود بالشبهات".. أي ادفعوا الحدود بكل طريق ولو بشبهة غير مؤكدة.


كذلك فعل الرسول وفعل الخلفاء من بعده، حينما بحثوا للناس عن كل سبيل للنجاة. وانشغلوا أولا، وقبل عقاب الناس وملاحقتهم بالقطع والسفك، أن يوفروا لهم حياة كريمة لائقة تحميهم من السرقة والانخراط في الجريمة. بل إن الفقر والجوع شبهة تسقط الحد عن مرتكبه. كذلك فعل عمر في عام المجاعة.


وعندما سرق غلامان جملا وضبطا يأكلان منه، لم يقم عليهما عمر الحد لأنهما كانا جائعان، وأحضر سيدهما حاطب بن أبي بلتعة وغرمه ثمن الجزور، وقال له: إن يسرقا يا حاطب قطعت يدك أنت. ومرة ثانية يسأل عمر أحد ولاة الأمر المسئولين عن الإدارة، وقال، ماذا لو قدموا لك بسارق، قال قطعت يده يا أمير المؤمنين.. قال إذن لو جاءوني بجائع –نتيجة ظلم- قطعت يدك أنت. لتكريس المسؤولية السياسية إلى جوار المسؤولية الجنائية عن أفعال الناس.


ويكون القصد هو الوصول بالمجتمع إلى درجة من الأمان والتوازن وحماية مصالح الناس، قبل أن يكون الهدف هو القطع والجلد والعقاب.


وتكون حدود الله هي العمل لرفاهية الناس. وهي العدل الاجتماعي في توزيع الأرزاق. وهي مشاعر الرحمة والكرم تجاه الضعيف.. وفي النهاية هي حماية المجتمع من الجريمة بأي وسيلة. وإنما ذكر القطع على سبيل المثال وبحكم العرف السائد.


أما من يبدأ الحدود بالعقاب فهو مختل نفسيا، يحاول أن يسقط ما بداخله من شقاء وغلظة وكراهية للمجتمع في أول فرصة، سيما لو ارتدت مسوح الدين المقدسة.