التوقيت الجمعة، 19 أبريل 2024
التوقيت 05:50 ص , بتوقيت القاهرة

على برلين رايحين.. مشاكلنا بالملايين

الآن وقعت في حيص بيص.. "مش بيقولوها كدة برضه؟!".


كثيرة هي القصص والموضوعات هذا الأسبوع، التي تستفز رغبتي في الكتابة للتعليق عليها، لكنني في المقال السابق، "كيف نتعامل مع ما يجري فى مصر؟!"، كنت قد وعدتك ببدء محاولة وضع "الشعب" نفسه- لا "السلطة" فقط - أمام المرآة، لنجيب عن السؤال: هل الشعب مؤهل حقا للانخراط في منظومة ناجحة إذا ما أوجدتها السلطة؟ ما العمل الآن؟ كيف أوفق بين رغبتي ووعدي في الكتابة؟


وجدتها.. وياللعجب.. وجدت أن كل ما لفت نظري من موضوعات تستحق التعليق، إنما تكشف جميعا عن العوار المتجذر، والالتباس المتأصل في شخصية المواطن المصري الآن، سواء كان هذا المواطن من الشعب أو السلطة، ولم العجب؟!.. فأي سلطة هي انعكاس لشعبها، "ما الفول من الطعمية والطعمية من الفول يا مسعود".


قام الرئيس عبد الفتاح السيسى بزيارة مهمة إلى العاصمة الألمانية برلين، وقد نجحت الزيارة بشكل جيد، من منظور محدد، سأشرحه لك حالا، لكن انظر ما جرى، قبلها وفي أثنائها وبعدها.


سياسيا، قبل الزيارة، التراشقات بين الدول المختلفة في وجهات النظر تكون معتادة. تصريحات رئيس البرلمان الألماني ثم رد وزارة الخارجية المصرية، وانتهينا، لكن اللجان الإلكترونية الإخوانية قامت بإشعال القصة، والإعلام هنا لابد أن يدلي بدلوه ويرد هو أيضا، "مش فيه معركة؟ يبقى ولع ولع وكله بالوطنية وفي حب مصر"، حتى بدت الصورة وكأننا مقبلون على "موقعة برلين"، بين فتى البارسا المحبوب واليوفي السيدة العجوز!


مجتمعيا، الكل انتفض، فكان لابد من الحشد، للتشجيع فى المدرجات، مدرجات الزيارة الرسمية، فجاء تنظيم وفد الفنانين، والتراشقات حوله، هل يتبع الرئاسة أم لا؟ اتضح أنه لا يتبع، "طب إيه لزومه؟!"، "عشان نرد على  مظاهرات الإخوان في المقابل ونؤكد أننا كلنا مع السيسي، يعني نسيب الراجل لوحده؟!".


كان يكفي جدا أن يتولى المصريون في ألمانيا تنظيم الفاعليات التي يريدونها، وقد فعلوا.. "لكن إزاي؟ مش كل واحد لازم يحط التاتش بتاعته ويشوف مصلحته برضه؟".. تلك "المبالغة البلدي" تعكس فكر ناس من "الشعب".. وأيضا فكر ناس من "السلطة" لم يرفضوا هذا أو يقولوا "بلاش تهريج".


دعك من كل هذا.. في أثناء الزيارة، وفي المؤتمر الصحفي للسيسي والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، تبدت كل أمراض الشعب، مؤيدين ومعارضين، أمام "عينىّ اللي بقى نفسي الدود ياكلهم فعلا وارتاح". 


"مؤيدين ومعارضين ايه في مؤتمر صحفي؟!.. أيوة يا عم.. ما إحنا مصريين.. نعمل اللي إحنا عايزينه".


السادة الصحفيون والإعلاميون المرافقون للرئيس، دخلوا المؤتمر الصحفي، وسط شحن جماهيري منقطع النظير، فكان لا بد من تشجيع اللعبة الحلوة من المدرجات، لذا فقد غلبتهم مشاعرهم مع كلمات الرئيس الواضحة التي سعت إلى المبادرة باقتحام نقاط الخلاف والرد عليها دون انتظار الأسئلة، فما كان من الصحفيين "اللي هم صحفيين"، إلا أن بادروا بتصفيق حاد في المؤتمر "اللي هو صحفي برضه".. "ياه، جديدة دى يا رجالة، تصفيق في مؤتمر صحفي وفي دولة أجنبية، عملتوها إزاي دي؟ والله وعملوها الرجالة!".


فى المقابل، حاولت فتاة "معارضة" أن تلقي سؤالا في المؤتمر باعتبارها مراسلة لجريدة محلية وراديو "رينويله"، لم يصبها الدور لإلقاء السؤال أكثر من مرة، وقد كتب الزميل محسن سميكة مندوب "المصرى اليوم" في رئاسة الجمهورية على صفحته على "فيسبوك" أن الفتاة كانت تقف بجواره في المؤتمر، وكانت تتلقى رسائل عبر "واتساب" تدعوها لضرورة إلقاء سؤالها بأي طريقة أو عمل أي شيء، ولكن لم يتم الاستجابة لطلبها، من جانب منظمي المؤتمر "اللي هم ألمان طبعا مش مصريين، يعني مفيش كبت حريات ولا حاجة"، وعندئذ نسيت الفتاة المولودة في ألمانيا لأبوين مصريين مهاجرين، قيم احترام النظام ومبادئ الإعلام، وعادت إلى "مصريتها الأصيلة"، فراحت تهتف في المؤتمر "اللي هو صحفي" ضد حكم العسكر!


دعك من كل هذا "الدعك الفكري".. بعد ختام الزيارة، كانت الحكاية "ضحك"، وهذا التعبير هو لشقيقي المهندس ماجد شعير المقيم بألمانيا، "ضحك ليه يا عم ماجد؟ ماتقولش أن الزيارة فشلت! يا حوستي!"، رد قائلا: "مش قصدي، بس اللي يشوف اللي بيتقال في الاعلام المصري والإعلام هنا، لازم يضحك". وقام بإمدادى بروابط موضوعات التغطية الصحفية للزيارة، وتولى ترجمة أجزاء منها.


صحيفة "شبيجل أونلاين" كتبت عناوين مثل، "الضيف غير المريح"، و"الرئيس المصري السيسى فى برلين.. ألمانيا تبيع مبادئها"، وقالت إن الحكومة الألمانية عندما تستقبله فهى تبيع القيم من أجل صفقة بالمليارات. أما المحلل ولفجانج بوتنر فقال إن السيسي يستحق الوقوف أمام المحكمة وليس مع ميركل. وفي ظل كل هذا فقد تبارت الصحافة الألمانية في الكتابة عن فتاة المؤتمر الصحفي التي هتفت ضد السيسي. وبالطبع، فقد فهمت الآن لماذا "الضحك"، فقد أظهر لنا إعلامنا الهمام أن الرئيس عاد من "موقعة برلين" حاملا كأس أوروبا، وأن الزيارة قد نجحت نجاحا باهرا.


ولكن.. "كلام جد بقى مش ضحك".. فى رأيي أن الزيارة قد نجحت بشكل جيد، من منظور محدد، هو أن مصر قد عرضت وجهة نظرها بوضوح للألمان، وأن الرئيس بادر بالرد تفصيليا على القضايا محل الخلاف، وليس مطلوبا أو متوقعا ألا يكون هناك خلاف، "ياريت ننسى بقى كلمة تطابق وجهات النظر اللي مالهاش أصل مش بس في السياسة لكن بين البشر أصلا". ونجحت الزيارة أيضا لأنه رغم هذا الخلاف فقد تم توقيع صفقة "سيمنز" بمليارات الدولارات، التي اعترفت الصحافة الألمانية نفسها، رغم كل ما قالته، بأهميتها الشديدة لبلادهم، "أيوة بلادهم مش بلادنا بس، هم اللي بيقولوا".


من هذا المنظور، نجحت زيارة برلين، كأي زيارة لدولة مهمة يمكن أن تنجح، لكن هذا لا يعني أن مشاكلنا، شعبا وسلطة، قد انتهت، وأن تشوهاتنا ليست محفورة بداخلنا. السلطة أفسدت الشعب لعقود طويلة، نعم، أهدرت قيم الكفاءة لصالح الولاء، أشاعت الإحباط وثقافة النفاق، "الشطارة أنك تسرق أو تكسر الإشارة وما تتمسكش".. ولكن هذا لا ينفي أن قطاعًا كبيرًا من الشعب قد استمرئ الحال، فالفوضى والفهلوة والكسب بلا جهد أو عمل حقيقي، يظل طيب المذاق لدى كثيرين.. فعندما نعمل بحق ونحترم القانون بجد مثل أهل برلين، يمكن لنا أن نطالب حكامنا بأن يكونوا كحكامهم "بعين قوية".


لكن.. من أين يأتي انضباط السلطة إن لم يكن هناك شعب منضبط؟.. فأي سلطة هي انعكاس لشعبها.. "ما الفول من الطعمية والطعمية من الفول يا مسعود". والحق أننا لسنا أبدا "مسعودين".. بل أن مشاكلنا وتشوهاتنا بالملايين.. ألا ترى؟!.. هى أشياء لا تشترى. ألا ترى؟.. "قطة وحلة" فى معهد القلب، ورئيس الوزراء تذهله المفاجأة ويغضب، ونحن نصدقه، ولكننا أيضا نسأله، "أحقا فوجئت؟ كيف فوجئت؟ ألم تكن تعلم؟!". ألا ترى؟.. حزب التجمع يقيم مهرجانا للفنان العظيم سيد درويش.. ويعرض فيه أغنية هابطة للغاية بمشاركة راقصتين "فظيعتين" للغاية أيضا! ألا ترى؟.. ناشط سياسى بالمنيا يطلق حملة لجمع 40 مليون توقيع من القرى والمراكز للمطالبة بمد الفترة الرئاسية للسيسى الى 8 سنوات، معللا ذلك بأنه "البطل المنقذ الذى لا يجود الزمان بمثله"، وقد بدأ بالفعل جمع التوقيعات!  


لكننا أيضا نرى.. نرى فى المستقبل المنظور، يوم السادس من أغسطس، يوم افتتاح قناة السويس الجديدة، ونرى "عمل وأفكار" الرجال هناك، من البسطاء الطيبين الحالمين، العاملين لأجل تحقيق حلمهم، وفقا لما نقلته لنا الزميلة دعاء خليفة فى "الأهرام" أمس الأحد، تحت عنوان "زغروطة يا عمال القنال"، حيث يقولون بعرقهم: "في يوم من الأيام هنحكي لولادنا الحكاية كلها".. "هنا شباب مصري يصارعون الوقت للبناء والتعمير، بينما يعكف آخرون على النقد وتثبيط الهمم والعزائم"، وتعبر الكاتبة عما رأته بكلمات عبد الرحمن الأبنودي التي تغنت بها الفنانة نجاة عن القناة.. "مش قلتلك، مش قلتلك، كله فى معاد، حسب المعاد جينا، حلوة حلوة يا بلدنا".


وهكذا.. فالأمل والألم دوما باقيان، وإن كنا نريد التغيير حقا، فلابد من الإيمان بأهمية أن يأتي متدرجا، حتى يكون عميقا متجذرا، بشرط أن نبدأ جميعا، شعبا وسلطة.. أن نبدأ اليوم وليس غدا.. وسوف يحدث التغيير حتما.. لكن.. "كله في معاد". 


اقرأ أيضا



 
للتواصل مع الكاتب عبر الفيسبوك