التوقيت الثلاثاء، 23 أبريل 2024
التوقيت 10:10 م , بتوقيت القاهرة

المبادئ لا تتجزأ.. والحقوق قد تتجزأ

تُفرق الفلسفة الحقوقية في أساساتها بين نوعين من الحقوق: الحقوق الطبيعية، والحقوق القانونية.

الحقوق الطبيعية هي الحقوق التي يكتسبها الإنسان بالطبيعة، أي بمجرد مولده، ولمجرد كونه إنسانًا في هذا العالم، والحقوق القانونية هي الحقوق التي تترتب على كونه مواطنًا في دولة معينة فيمنحها له القانون.

تحديد الحقوق الطبيعية جاء أساسًا من الاعتماد على القانون الطبيعي، والقانون الطبيعي هو فلسفة قانونية تقوم على البحث عن الأساس القانوني الذي يشترك فيه  كل البشر معا  بلا استثناء، والذي سيحتكمون له ويقبلون به جميعًا في غياب أي قانون.

كان توماس هوبز هو من طوّر هذه الأفكار، خروجًا من الحيز الضيق لاعتقاد ديني معين أو لفلسفة اليونان والرومان التي عبر عنها أرسطو وشيشرون، ووضع بها تسعة عشر قانونًا طبيعيًا تحكم أداء البشر، كان أولها أن كل إنسان يسعى أساسًا للسلام بمقدار ما يأمل في قدرته على الحفاظ عليه، فإذا ما فقد هذا الأمل فسيسعى للاستعانة بكل سُبل الحرب واستعمال هذه السبل لتحقيق ما يضمن له أمل السلام مرة أخرى. أمّا القانون التاسع عشر والأخير فقد كان أنه إذا اختلف طرفان أمام من تم اختياره كقاض حول وقائع معينة، فإنه لا يجب عليه أن يعطي وزنًا أكبر لشهادة طرف ضد طرف في غياب الأدلة.

ليست تفاصيل القوانين الطبيعية التي وضعها هوبز مهمة هنا إلا لتوضيح أنه كان يضعها على أساس حقيقة أن أي إنسان سيقبل بها أيا كان شكله ولونه ودينه وجنسه، فلا أحد سيرفض السلام إذا ضمن ألا يُقتل وألا تُنهب ممتلكاته والا تُغتصب زوجته وألا يتم تعذيبه، ولا أحد سيرفض أن يُحكم بينه وبين خصمه قاضٍ بالعدل، طالما أنه يضمن أن شهادته ستؤخذ بعين الاعتبار وكذلك سيتم احترام كل الأدلة.

الخلاصة أن القانون الطبيعي الذي قامت عليه الفكرة وضعه هوبز لتخليص العالم من فكرة (حرب الكل ضد الكل)، ذلك أن أي إنسان، أساسًا، يحاول قدر الإمكان أن يسعى لتحقيق سعادته الشخصية، ولكن نتيجة لخوفه من الآخرين فإنه يكون في الأصل في حالة عداء دائم لبقية البشرية كلها؛ خوفًا على حياته وسلامة جسده، وخوفًا على طعامه وشرابه وشريكه الجنسي وأطفاله وممتلكاته وخوفًا من الظلم.. إلخ.

والحل  كان لدى هوبز هو أن يتفق كل هؤلاء على هذه القوانين الطبيعية، ثم يذهبون إلى كيان يصنعونه اسمه الدولة، يعطونه الحق في حماية هذه القوانين الطبيعية؛ وبالتالي بدلًا من دائرة العنف اللانهائية في حرب الكل ضد الكل يضمن الجميع السلام، في مقابل قبولهم جميعًا أن يقوم كيان اسمه الدولة باحتكار العنف ضد أي فرد منهم، فهذا الكيان هو من يقضي بينهم، ويحكم لمصلحة أحدهم، ويعاقب آخر بأي شكل من أشكال القهر والإجبار، أي بإرغامه على دفع غرامة أو حبسه أو حتى إعدامه، ولكن وفق الإطار المتفق عليه بما يوفر وقت ومجهود الجميع للبحث عن سعادتهم الذي هو هدفهم الأسمى في الحياة.

يرتبط مفهوم الدولة الحديثة إذًا بمفهوم العلمانية؛ لأن مفهوم الدولة الحديثة يقوم على إقرارٍ بالقانون الطبيعي وبالتالي بالحقوق الطبيعية لكل البشر (داخل نطاق الدولة)، ولأنه لا يُمكن أن يكون قانونًا طبيعيًا أن يقبل مسيحيّ أن ينال ضعف العقاب إذا ارتكب جريمة ضد مسلم، ولا أن يقبل القصير أن يتم تعذيبه لو أجرم في حق الطويل، فإنّ القانون الطبيعي ببساطة انطلق من كون البشر بشرًا، وساوى بينهم في الحقوق والواجبات بغض النظر عن أي أفكار تمييزية دينية أو مذهبية أو عنصرية أو طائفية طالما يعيشون في داخل دولة واحدة. وبالتالي أسست الحقوق الطبيعية لمستوى آخر من الحقوق والحريات هي الحقوق المدنية والسياسية، وهي تلك الحقوق المرتبطة بمفاهيم أكثر حداثة من الدولة كمفهوم المواطنة ومفهوم المشاركة السياسية.

الحقوق الطبيعية إذن هي أساس يسبق الحقوق المدنية والسياسية، القانون الطبيعي يقر لكل إنسان مجموعة حقوق منطقية أيا كان معتقده الديني وجنسيته وأفكاره، هو فقط قانون يترتب على كونك إنسانًا، وبالتأكيد فإنّ أول تلك الحقوق الطبيعية هو حقك في الدفاع عن حياتك والدفاع عن سلامتك الجسدية. لهذا السبب فإن القتل أو الاغتصاب أو التعذيب أو التحرش هي انتهاكات للقانون الطبيعي،  ومثلها انتهاك حرية الاعتقاد وحرية التعبير والمساس بملكيتك الخاصة، وانتهاك حريتك في التنقل من مكان لآخر، وبرغم أن الحقوق المدنية والسياسية أصبحت تُشكل مع الحقوق الطبيعية ما يُعرف عمومًا بحقوق الإنسان، وأضيفت لها لاحقًا حقوق أخرى هي الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، فإن إدراكنا لتراتبية هذه الحقوق وأهميتها ضروري لإدراك أن الحقوق الطبيعية تسبق غيرها.

ما الهدف من هذا كله؟ 

إنه ببساطة  لا يُمكنك إذا كنت تفهم فلسفة هذه المنظومة، كما تفهمها الآن، أن تستقتل للحفاظ على حق مجموعة في الإضراب أو التظاهر وأنت تعلم أن هذه المجموعة لا تؤمن أصلا بحق الآخرين في الحياة من واقع خطابها وكتبها وأدبياتها، لا يُمكن أن تناقش حرية الإرهابي في التنقل باعتبارها من حقوق الإنسان، لا يجوز أن تناقش حرية التجمع لمجموعة تؤمن بتعذيب وقتل الآخر وسبي نسائه وأطفاله، لا يُمكن أن تناقش حرية العمل السياسي لمجموعة تُحرض على تدمير كيان الدولة نفسه باستخدام العنف.

إنهم يقولون لك الحقوق لا تتجزأ لإقناعك بمنطق معكوس يقوم دائمًا على وضع العربة أمام الحصان، فنبدأ بمناقشة عقوبة الإعدام ضد الإرهابي قبل أن نناقش حرية التعبير أساسًا، المباديء هي ما لا يتجزأ أما الحقوق فتتجزأ وتترتب على بعضها البعض. إنهم يناقشون حقك في استخدام السلاح ضد إرهابي يصوب سلاحه ضد رأسك، زاعمين أن عليك في تلك اللحظة أن يكون اهتمامك الأساسي القبض عليه حيًا أو إصابته إصابة غير قاتلة، وكأنّ الأولوية هي لحياة الإرهابي عن حياة المواطنين أو الشرطة أو كأنك ينبغي أن تهتم بإنقاذ حياة شخص يُطلق عليك الرصاص، ولو كلفك ذلك حياتك أو الإصابة بعاهة مستديمة.

عندما احتلت ألمانيا فرنسا عام 1940 تشكّلت حكومة عميلة قادها المارشال هنري بيتان عرفت باسم حكومة فيشي نسبة إلى اسم المكان الذي فيه مقرها، تولت الحكومة التعاون مع الألمان في بقية الأراضي الفرنسية وفي المستعمرات الفرنسية في العالم، بينما رفض مجموعة من الجنود الفرنسيين ذلك بقيادة شارل ديجول، وشكلوا حكومة فرنسا الحرة في المنفى بلندن، وظل ديجول وحكومته يوسعون دوائر نفوذهم من السيطرة على المستعمرات الفرنسية في شمال إفريقيا والشام وإفريقيا وآسيا إلى أن كان إنزال قوات الحلفاء في نورماندي بفرنسا في يونيو 1944، والذي قاد لتحرير باريس في أغسطس، ثم لتحرير فرنسا كلها بحلول الشتاء التالي.

 المهم أن حكومة فرنسا الحرة  شكّلت حكومة مؤقتة (1944-1946) تلتها حكومة منتخبة  فيما عُرف بالجمهورية الرابعة منذ عام 1946 ، ورُغم ذلك لم يتسامح الفرنسيون مع العملاء والخونة، فتمت محاسبة الخونة في عملية عُرفت بالتطهير القانوني، فتم فحص ملفات ثلاثمائة ألف وحُكم على ستة آلاف وسبعمائة بالإعدام كان بينهم ثلاثة آلاف وتسعمائة حكم عليهم غيابيا، وقد تم تنفيذ حكم الإعدام في ثمانمائة شخص، وقررت فرنسا حرمان خمسين ألف شخص من حقوقهم السياسية والمدنية وتحويلهم إلى مواطنين من الدرجة الثانية، وتمت كل هذه الإجراءات بشكل قانوني وبموافقة الغالبية ( في الواقع فإن الشكل القانوني كان أكثر تحضرًا بكثير من تصفية الحسابات التي تم فيها إعدام أكثر من تسعة آلاف متعاون بدون محاكمة وبدون أي ضمانات).

 استمرت هذه المحاكمات حتى عام 1951 وحتى صدور عفو  عنهم، كانت المحاكمات قانونية وسليمة وحاسمة وحرمت مواطنين من أي وظيفة عامة أو حتى حق ترشيح أو انتخاب  لأن الحقوق تتجزأ وتترتب عند وقوع تهديدات جسيمة.

في ديسمبر عام 1941 شنت اليابان حربها على الولايات المتحدة  بقصفها لبيرل هاربور، وكانت الولايات المتحدة مهددة بخطر اجتياح حقيقي من اليابانيين، وخلال شهرين وقّع الرئيس الأمريكي في فبراير 1942 أمرًا بترحيل كل الأمريكييين من أصل ياباني من مناطق ساحل المحيط الهادي إلى مناطق محددة في الداخل كمعسكرات إقامة جبرية، وتضرر من ذلك ما يفوق 130 ألف، كان بينهم ثمانون ألفًا يحملون الجنسية الأمريكية بالفعل، ولم يتم رفع هذا الحظر إلا في ديسمبر 1944 بعد أن أوشكت الحرب على الانتهاء وانتهى الخطر تقريبا،  لتفهم حجم العملية عليك ان تدرك العدد الذي تم ترحيله من ذوي الأصول اليابانية تصل نسبته إلى ما يُعادل واحدا في الألف من إجمالي الأمريكيين آنذاك.

 بالتأكيد كان هذا إجراءً ظالمًا بحق ذوي الأصول اليابانية، ولكنّه كان إجراءً احترازيُا يُمكن الاستعاضة عنه في عالم اليوم بوسائل المراقبة وغيرها، لكن بالتأكيد لا يُمكن تجاهل التهديد كما لا يمكن مقارنة انتهاك حقوق ذوي الأصول اليابانية بالانتهاكات التي ارتكبتها ألمانيا واليابان؛ لأنه- ببساطة- الحقوق تتجزأ وتترتب عند وقوع تهديدات جسيمة.

نستطيع أن نضرب إذن عشرات الأمثلة على كون الحقوق ليست كتلة مصمتة، وأن بعضها مقدم على البعض الآخر عند الضرورة.

بالعودة إذن لموضوعنا فإننا نجد هؤلاء الذين يصفون أنفسهم باعتبارهم مدافعين عن الحقوق، تكون أصواتهم منخفضة أو غائبة عند الحديث عن حرية الاعتقاد أو التعبير أو غيرها من الحقوق المترتبة على الحقوق الطبيعية (لاحظ مواقفهم من إسلام بحيري، سيد القمني، الأقباط، حرية ممارسة الشعائر، اليهود، البهائيين، الملحدين، المساواة، حقوق المراة)، بل ويدافعون ببسالة عن كل من يرفض ويعادي هذه الحقوق الأساسية، وكيف تعلو أصواتهم كالهدير عند الحديث عن حقوق سياسية لإرهابيين أو حق تأسيس حزب سياسي لجماعة من الطائفيين العنصريين الذين يعملون في تنظيمات مسلحة.

ليست مسلماتكم مسلمات حقيقية إلا لأنكم تأخذونها من مجتمعات استقرت فيها تلك الحقوق الأساسية كمسلمات يقبلها الجميع ومحمية بقوة القانون والسلاح، أما أن تنكروا الحقوق الأساسية المُسلّم بها منذ قرون  لتناقشوا الحقوق التي توافق عليها العالم قبل عقود قليلة، فهذا هو الهزل بعينه وهذه هي تجزئة الحقوق بعينها.

إن كُنتم حقا ترفضون تجزئة الحقوق فارفضوا كل من يرفض البعض منها أولا، فإذا لم تفعلوا ذلك فإنكم ببساطة تهدمون نظرية العقد الاجتماعي نفسها التي قامت عليها الدولة الحديثة، وتحولون الدولة من كيان لخدمة حقوق المواطنين إلى كيان لخدمة المتعصبين والمتطرفين على حساب غيرهم.  الحقوق يمكن أن تتجزأ ولكن المبادئ لا تتجزأ، أما أنتم فمبادئكم تتجزأ دائما انحيازًا لإرهابيين.

للتواصل مع الكاتب