التوقيت الجمعة، 10 مايو 2024
التوقيت 12:02 ص , بتوقيت القاهرة

في علم الأجنحة

 تُجيد جماعة الإخوان اللعب بالأجنحة. وللجماعة أجنحة مباشرة، وأخرى غير مباشرة، وأخرى طائرة. فدعونا نحاول فهم كيف يتم ذلك وكيف يشارك فيه البعض بدون قصد.


يوهان كرويف الظهير الهولندي الطائر في كأس العالم 1974 كان أبرز لاعبي أحد الأجيال الذهبية العديدة للكرة الهولندية، التي لم تفز بكأس العالم أبدا واكتفت ثلاث مرات باللعب في مباراته النهائية. صحيح أنني لم أشاهده أبدا يلعب على الهواء لأنني من مواليد نفس العام الذي شهد اعتزاله ثم رجوعه المؤقت ثم اعتزاله نهائيا، إلا أنني سمعت عنه الكثير وشاهدت له فيديوهات مهارات وأهداف كثيرة مع أياكس وبرشلونة والمنتخب البرتقالي على يوتيوب الحبيب. 


ومنذ شاهدته عرفت لماذا أسماه النقاد الكُرويون بالجناح الطائر الزئبقي الذي ينتشر في كل مكان بالملعب ويجعلك تكاد لا تعرف أين مركزه الأساسي بالضبط في خطة اللعب، ولماذا أسموا جيله الهولندي بجيل الكرة الشاملة. وبدون الخوض في تفاصيل كروية ليس هنا مجالها، أعتقد أن بوسعي الاستعارة من تجربة الجناح الهولندي الطائر للقياس - مع الفارق طبعا - فيما يخص تجربة الأجنحة الإخوانية المتعددة.


الإخوان جماعة تعشق العمل السري وتُدمن أسلوب تحريك العملاء بالوكالة. وليس صحيحا أن حظر الجماعة على مدار أغلب فترات تاريخها هو السبب الوحيد لعشقها للعمل السري ومنهج اللعب بالوكالة. فحتى عندما استغل الإخوان حراك يناير - أو تورطوا بسببه - وأسسوا حزبا سياسيا لأول مرة في تاريخهم، فإنهم لم يكفوا عن العمل السري من خلال التنظيم الدولي في الخارج ومكتب إرشاد الجماعة في الداخل. فالعمل السري يمنحهم دائما قدرة ممتازة على المناورة والاختراق وإخفاء مصادر التمويل، ومآرب أخرى طبعا. وهذه السياسة كانت دوما تتطلب من الإخوان تقسيم تحركاتهم في اتجاهَين: اتجاه رسمي يصدر مباشرة عن الجماعة، واتجاه غير رسمي يصب في صالح الجماعة ويتوازى مع توجهاتها دون أن يكون صادرا عن أحد قياداتها أو عن مكتب إرشادها أو حتى عن أحد منتسبيها المُعلَنين.


يتجلَّى الاتجاه الرسمي في تصريحات وبيانات الجماعة الرسمية وكبار قياداتها، مثل تصريح مهدي عاكف عندما كان مرشد الجماعة بأنه يستطيع تجييش مسيرات أولها في غزة وآخرها في مصر، وتصريحه بأنه "طظ في مصر وأبو مصر واللي جاب مصر"، وتصريحه بأنه يرتضي أن يكون رئيس مصر ماليزيا مسلما أكثر من أن يكون مصريا مسيحيا، وبيان مكتب الإرشاد قبل 25 يناير مباشرة الذي أعلن - كذبا - أن الجماعة لن تشارك في مظاهرات الغضب ضد الداخلية ومبارك، والكثير الكثير غير ذلك من التوجهات الرسمية للجماعة. وبالتوازي مع ذلك، تُجيد الجماعة استخدام أشخاص وتيارات ومواقف ومؤسسات من خارجها للتخديم على مصالحها ورؤاها ومشروعها، والأسلوب المفضل لدى الجماعة في ذلك التخديم هو أسلوب اللعب بالأجنحة. وحقيقة، فإن اللعب لا يكون بجناح واحد ولا بجناحَين، بل بثلاثة.


هناك- أولا- الجناح الإخواني المباشر، وهو الذي يعلن بكل وضوح وبشكل متواصل دعمه للجماعة، ولا يبذل كثيرا من الجهد لإظهار نفسه في صورة المعتدل الوسطيّ في دعمه للجماعة. والمُلفِت أن تكوين التحالف بين الاخوان وبين هذا الجناح المباشر يتم بإحدى طريقتَين شديدتَي التناقض: فإما أن يكون الاخوان هم القُطب والجناح هو التابع، كما في حالة علاقة الاخوان بما يُسمَّى بتحالف دعم الشرعية، وعلاقتهم بجماعة أنصار بيت المقدس قبل إعلان ما يُسمَّى بولاية سيناء، وعلاقتهم بحركة حماس الحاكمة غصبا في قطاع غزة.. وإما أن يكون الجناح هو القُطب والإخوان هم التابع الذي يخدم مصالح القُطب في مقابل فُتات سياسي أو اقتصادي أو تسليحي، كما في حالة علاقة الاخوان بإردوغان، وعلاقة الإخوان بتيار يميني ديني داخل مكتب وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلاري كلينتون.


وهناك- ثانيا- الجناح الإخواني غير المباشر، وهو الذي يدعم الإخوان دعما ضمنيا مستمرا، ويتّخذ مواقف تصب في مجملها في قالب الرؤية الإخوانية للأمور، ولكنه يحاول دائما إظهار نفسه في صورة المعتدل في دعمه لهم، أو بالأحرى فإنه يحاول قدر استطاعته إظهار نفسه في صورة المُعارِض السياسي بشكل عام أكثر منه في صورة المُعارِض من داخل المعسكر الإخواني. ويضم هذا الجناح عناصر مثل حركة 6 أبريل، وبعض أعضاء الاشتراكيين الثوريين، وبعض أعضاء حزب الدستور وبعض أعضاء مدرسة البرادعي السياسية بشكل عام، وثلاث صحف يومية على الأقل، إلى جانب الغالبية العظمى من المنشقين عن الجماعة، وعلى رأسهم عبد المنعم أبو الفتوح الذي يستحق وصف "الجناح الاخواني الشامل" بامتياز. فأبو الفتوح انشق عن الإخوان في توقيت مقصود، ولأسباب إدارية وتنظيمية لا إيديولوجية، ودوره في إفساد وتشتيت وشقّ التيار المدني في انتخابات 2012 الرئاسية لصالح المجرم مرسي كان نموذجا يستحق الدراسة، وإلى اليوم مازالت ترشُح وتتسرب أنباء عن اجتماعاته في السفارة الأمريكية، ومازال حزبه يستقطب بعض المعارضين المدنيين دون أن يُفهمهم أن المظلة الجامعة للحزب اخوانية الهوى بالضرورة.


وبوجه عام، فإن التحالف بين الإخوان والأجنحة غير المباشرة ينشأ بأشكال عدة، من ضمنها: لعبة الانشقاق المقصود عن الإخوان، والتمويل الإخواني، والاختراق الإخواني، ووحدة الهدف، ووحدة العدو، ووحدة الهوى الديني في العمق.


وثالثا، هناك الجناح الإخواني الطائر، وأقصد به مَن هو ليس إخوانيا ولا يحترم الإخوان ولا يثق بهم، ولكن الإخوان يستخدمونه ويستخدمون مواقفه وانحيازاته لصالحهم ويُظهرونه كأنه أحد مؤيديهم أو المتعاطفين معهم إلى الآن. والأمثلة على هذا النوع كثيرة، ومنها:


- العلماني شديد العاطفية الذي يتعاطف إنسانيا مع ضحايا فض اعتصام رابعة ويتناسى أن الاعتصام كان به سلاح وأن ضرب النار بدأ من طرف المعتصمين وأن فض الاعتصام كان أمرا حتميا وأنه تم بعد مهلة زمنية طويلة وبعد عدة تحذيرات، وأنه تم توفير ممر خروج آمن للمعتصمين.


- العلماني الرافض لعقوبة الإعدام الذي يرفض - مثلا - إعدام إرهابيي خلية عرب شركس، ولكنه لا يحزن كثيرا لتصفية ضباط الشرطة والجيش ورجال القضاء والمواطنين العاديين على يد الإخوان وحلفائهم.


- العلماني الكاره لفكرة أن رئيس الدولة خلفيته عسكرية والذي تدفعه كراهيته تلك للدعوة إلى إجراء انتخابات مبكرة أو التحريض على ثورة ثالثة، رغم أنه يعلم أن البديل هو الفوضى وصعود التيار الثيوقراطي من جديد.


هؤلاء هم أجنحة طائرة زئبقية لأنهم يتحركون - مثل يوهان كرويف - في كل مكان بالملعب السياسي دون أن تعلم مراكزهم وانحيازاتهم بالضبط، هل هي مُعارِضة من بابٍ علمانيٍ أم إنها مُعارِضة من بابٍ فوضويٍ وظهوريٍ حتى لو أفضت الفوضى وحب الظهور إلى خروج حازم أبو اسماعيل من السجن ليُؤدِّب هو وأنصاره الفرق الموسيقية في الجامعات ومُصلِّي الجمعة الذين يعترضون على تسييس الشيخ المحلاوي للمنبر.  


هؤلاء ربما حتى لا يعلمون أن مواقفهم غير الخالصة في علمانيتها تجعلهم مَطَايا للاخوان بدون قصد. ولا يمكننا تحليل طرق تشكُّل التحالف بين هؤلاء وبين الإخوان، ببساطة لأنه لا يوجد تحالف معلن ولا ضمني أصلا. كما أنه ليس من حقنا مطالبتهم بمراجعة مواقفهم التي تجعلهم مَطَايا للإخوان، فمن حق كل فرد أن تكون له مواقفه دون تدخُّل أو رقابة من أحد. وباختصار، فالعيب ليس فيهم ولا عليهم، وإنما هو في جماعة الشر الانتهازية التي لا أنسى أبدا حين قال أحد أعضاء مكتب إرشادها ما معناه أن كل فتاة متحجبة هي مشروع حريرة إخوانية بالضرورة حتى وإن كانت لا تعلم ذلك ولا توافق عليه.