التوقيت الجمعة، 10 مايو 2024
التوقيت 08:42 م , بتوقيت القاهرة

علماني ودستة أشرار

في مقال الثلاثاء الماضي بدأنا محاولة اختراع جهاز لكشف الكذب العلماني..


وللتَذكِرة، الهدف من محاولة الاختراع هو مساعدتنا على كشف أدعياء العلمانية، الذين يتصورون ويزعمون أنهم علمانيون لأقصى مدى، بينما هم في الحقيقة غير علمانيين على الإطلاق، بل ويؤذون العلمانية ويضربونها من الداخل، بدفاعهم عن ضرر اجتماعي بالغ مثل النقاب كحرية شخصية مزعومة، وبنشرهم أخبارا مفبركة وتغييبية من صفحات إخوانية مثل رصد والأزهر اليوم، وبسخريتهم المتواصلة و"قلشهم" بلا هوادة من كل رأي وكل موقف غير تقليدي يتم تنقيحه "خارج الصندوق"، وبانتهاجهم أحيانا خطا معاديا للجريدة العلمانية الورقية الوحيدة التي تصدر يوميا في مصر، وبتصديهم للإفتاء القَطعي الجازم في قضايا وموضوعات هي أبعد ما يكون عن تخصصاتهم العلمية ومجالات قراءتهم الحرة، وبتعاملهم مع آرائهم وانحيازاتهم الشخصية في الشأن العام بوصفها صوابا مطلقا لا يقبل الجدل ولا يتصدى للتشكيك فيه سوى العملاء والخونة، وبتبريرهم المشاركة في فعاليات سياسية لجماعات الدين السياسي الإرهابية على أساس وحدة العدو والهدف مرحليا، وبأشياء أخرى كثيرة من نفس القبيل المشوه. واليوم سنستكمل اختراع الجهاز بتحليل مسببات تلك المهزلة العلمانية وعناصرها المتداخلة.


سأدخل في التحليل مباشرة لأن الموضوع أصلا طويل.. الحقيقة أنني أستطيع وضع يدي على 12 سببا وراء كارثة ادّعاء العلمانية، وسأسردها أدناه في نقاط منفصلة بترتيب حُر:


1- مَفسَدَة السياسة:
أحاديث وخناقات السياسة أصبحت تحاصرنا في كل مكان؛ في الشارع وفي محل العمل وفي البيت وعلى المقهى وفي وسائل المواصلات وعلى شاشات الفضائيات وعلى مواقع التواصل الاجتماعي. وطبيعي أن ينغمس العلمانيون في المجادلات السياسية، وطبيعي أن يتّخذوا في الشأن السياسي انحيازات معينة وأن يبرروا انحيازاتهم تلك على أساس علماني وثقافي وتنويري، وطبيعي مِن ثَم أن يعتبر بعضهم انحيازاته الشخصية تجسيدا حيا للعلمانية إن لم تكن تعريفا لها. وعندما يكون العلماني عاطفيا بشدة في تعاطيه مع السياسة (التي هي مجال براجماتي بحت)، وعندما تكون قراءات وخبرات العلماني السياسية قبل 25 يناير محدودة أو شبه معدومة كليا، فإنه سيكون من الطبيعي أن ينحاز انحيازات سياسية مُراهِقة وخيالية. وإذا أضفنا إلى هذَين المُراهَقة والخيالية آفة الدوجما وادّعاء الصواب المطلق، فإننا سنكون بصدد علماني أفسدت السياسة علمانيته وجعلته - مثلا - يقول إن استكمال مرسي لفترته الرئاسية كان أفضل من خلعه هو وعصابته الدينية بعد سنة واحدة يتيمة.


2- إسقاط الإحباط:
كثيرون منا مُحبَطون جدا في حياتنا الشخصية، وكثيرون منا لديهم أسباب حقيقية لهذا الإحباط، وللأسف فإن الوضع العام من حولنا يزيد الإحباط الشخصي ويُراكِمه. الزحام، التلوث، الضوضاء، الفوضى، جبال القمامة في الشارع، المتطفلون الذين لا يحترمون خصوصية، الواسطة والمحسوبية، الغلاء... كلها مجرد عينة من مسببات الإحباط العام. لكننا لسنا جميعا من مصابي الاكتئاب، فبعضنا شخصيته من نوع Type A personality أكثر من بعضنا الآخر. وليس كل المكتئبين بيننا على نفس الدرجة من الاكتئاب، فبعضنا تحتوي شخصيته على مُكوِّن المزاج الشخصي المعتدل عموما Agreeableness أكثر من بعضنا الآخر.


والأهم أنه ليس كل المحبطين بيننا إحباطا شخصيا يقومون باستمرار بإسقاط إحباطهم الشخصي هذا على نظرتهم للشأن العام وانطباعاتهم عن كل ما يجري فيه. والكارثة هنا هي أن اعتقاد شبه المثقف العلماني أنه مثقف جدا وأن المثقفين يجب أن يكونوا مكتئبين بطبعهم وأن الاكتئاب التسويدي هو رد فعل انتقامي طبيعي من المثقف الطاهر تجاه المجتمع المُحبِط،، هذا الاعتقاد جعل علمانيين كثيرين يتبنّون نظرية "أيام سودا بقوللك" السخيفة. فكل شيء يحدث هو سلبي بالضرورة، ولا فائدة ولا أمل في أي شيء. وعليه فإنه حتى إذا تم تعميم الإنترنت المجاني في بعض ميادين القاهرة والإسكندرية، فلا مانع من أن ندخل بموبايلاتنا من هذا الواي فاي المجاني لنكتب تويتة تقول: "مفيش فايدة! إنترنت مجاني في بلد يعاني أطنان الزبالة وبحور المجاري يا حكومة الفاشلين"، مع العلم أنه كلما ساءت سرعة الإنترنت في بيوتنا ليلا فإننا نكتب: "الحكومة رجعت تحارب الإنترنت تاني عشان هو اللي خلع مبارك". وبإمكانك قياس الكثير على هاتين المقاربتين طبعا.


3- التقيَّة:
بعض العلمانيين يمارس التقية، مثل الشيعة في مناطق بالسعودية والسُّنَّة في مناطق بالعراق وإيران ومثل السلفية غير الجهادية في مصر بعد 30 يونيو. نعم، بعض العلمانيين أو أكثرهم يمارسون التقية! هم لا يملكون شجاعة وصف أنفسهم بأنهم علمانيون، فيصفون أنفسهم بأنهم مؤيدون للدولة المدنية فحسب. ولا يملكون شجاعة القول إنهم لديهم بعض الشكوك الدينية، فيقولون إنهم صوفيون أو قرآنيون. ولا يملكون شجاعة الدفاع عن نظرية التطور، فيتجنّبون أي حديث عنها وربما يسخرون أيضا منها إذا ما انفتح حديث سطحي عنها. وهؤلاء الجُبناء هم أدعياء العلمانية الذين يدافعون - مثلا - عن النقاب كحرية شخصية للفتاة، رغم المغالطات المنطقية والأضرار الأمنية والاجتماعية التي ينطوي عليها ذلك الدفاع.


4 - عُقدة الذنب:
رابعة هي المحنة الإخوانية الكبرى التي قال سيد قطب إن تحقيق الحاكِمية في مجتمع جاهلي يحتاج إليها، من باب التعاطف والتجييش. والحقيقة أن فض اعتصام رابعة كان ضرورة: فلا يمكن أن يدوم اعتصام للأبد، والدولة منحت المعتصمين فرصا وتحذيرات كافية للمغادرة، والاعتصام كانت به أسلحة، وقيادات الإخوان وقناة الجزيرة مارسوا على المعتصمين أقذر عملية غسل أدمغة في القرن الحالي، وتقرير لجنة تقصي الحقائق أثبت أن أول إطلاق نار تم في عملية الفض كان من طرف مسلحين بين المعتصمين، والممر الآمن الذي تم توفيره للمغادرين كان قرارا إنسانيا رغم أنه كان يجب في رأيي عدم السماح للإرهابيين بالمغادرة بكل بساطة وسط الجموع ليتحولوا بعد ذلك إلى مشروعات قنابل ومفخخات لم تعد تخيفنا وإن كانت تؤذينا.


المهم: المفروض أن يكون كل هذا واضحا للعلمانيين وأن يكونوا على ثقة بأن الإخوان كانوا سيعتصمون في رابعة وسيلجأون للعنف حتى لو أكمل مرسي فترته ثم أزاحه الناخبون عام 2016. لكن الكارثة أن هذا ليس واضحا بأي درجة لبعض العلمانيين. طبيعي جدا أن يستخدم الإخوان بقرة رابعة المقدسة التي تدر حليب التعاطف والشوو والسبوبة، لكن ليس طبيعيا بأية حال أن يتحول التعاطف الانساني العلماني مع غير المسلحين الذين ماتوا في فض الاعتصام إلى عُقدة ذنب تجعلهم يقولون الآن هزيا من نوعية أن الدولة هي التي تصنع التفجيرات لإشاعة الخوف والتسليم، بينما البلتاجي - القيادي الإخواني القطبي - قد توعَّدنا على الهواء من رابعة بأن التفجيرات لن تتوقف إلا في الثانية التي يعود فيها مرسي إلى الاتحادية.


5- الفهم القِشري:
سأحيلك في هذه النقطة إلى تساؤل مباشر: هل يمكن التعويل بحق على علمانية مَن لم يقرأ ولم يناقش - مثلا - تاريخ الثورة الفرنسية ولا أفكار سبينوزا عن وحدة الألوهية ولا كتاب التفكير العلمي للدكتور فؤاد زكريا ولا تجربة سنغافورة في التحديث العلمي للمجتمع ولا ترجمة كتاب أهم خمس أفكار في العلوم ولا معنى التفكيك عند دريدا؟ أظنه سيكون تعويلا قشريا جدا مثل قشرية فكر مَن لم يقرأ شيئا عن كل ذلك ولكنه جَسُور بما يكفي لأن يقول إنه علماني صميم.


6- السقف الذاتي:
مجتمعنا ككل مجتمع محافظ ومتحفظ وتقليدي، وأغلب علمانيينا كذلك. ولذلك تجد الواحد منهم يضع سقفا ذاتيا وحدودا قصوى شخصية لحريته في التفكير والتعبير والنقد. يكفيك مثلا أن تناقش أحد أدعياء العلمانية في مسألة مثل رأي العلم في نشأة الكون، أو في عدم وجود ولو سماء واحدة للكون، أو في مدى تطابق أو عدم تطابق مراحل نمو الجنين في النصوص الدينية مع مراحل نموه تحت المجهر وفي صور الأشعة،،، وستعرف جيدا ماذا أعني.


7 - رأي الشِّلَّة:
عندما تجد شلة من الأصدقاء العلمانيين لديهم إجماع تام على صحة آراء سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية معينة يؤمنون بها، وعندما تجد عائلة بكامل أفرادها وبكافة أجيالها تُجمِع على انحيازات يقينية موحدة تجاه الشأن العام، فاعلم أن علمانيتهم مضروبة في مقتل ومحل شكوك. فالعلمانية موقف شخصي/ذاتي بقدر ما هي طريقة متعادلة لتسيير الشؤون العامة وحل المشكلات المجتمعية، والعلماني الذي يقيس جودة الآراء بمدى إجماع شلته أو عائلته عليها هو في الحقيقة لا يختلف كثيرا عن الثيوقراطي الذي يُطيع رأي أمير جماعته ويرفض كل بدعة لأنها ضلالة.


8 - تعميم الشخصي:
صُلب العلمانية هو الفصل بين الكيانات، ومن أهم الكيانات التي يفصل العلماني بينها: تجاربه الشخصية والحقائق المجردة. والقوانين الوضعية علمانية في هذا الصدد لأن القاضي لا يحق له الحكم بعلمه الشخصي حتى لو كان يقينيا في رأيه، وهذا سبيل أكيد إلى الموضوعية والتجرد. لكن مُدَّعِي العلمانية يحكم دائما بتجاربه الشخصية، ويُعمِّمها، ويعتبرها معيارا للحقيقة. وكمثال، فإن هذا النوع من الأفراد هو الذي يجزم بأن الداخلية هي التي فتحت السجون يوم 28 يناير، لأنه واثق أنه هو وأصدقاءه الشيوعيين لم يقتحموا السجون يومها، رغم أن حقائق كثيرة جدا قد تكشَّفت بمرور الوقت عن دور الاخوان وحلفائهم في ذلك.


9 - الاختراق:
لدينا كيانات علمانية كثيرة مخترقة بوضوح من الإخوان، وعملية الاختراق تكون أسهل كلما كانت علمانية الكيان أقل تماسُكا وعمقا وكلما كان القائمون على الكيان ينتهجون تجاه العلمانية منهجا يميل للخلط بين العلمانية والوسطية الدينية. ولن أجد أفضل من حركة كفاية في عُهدة د. عبد الوهاب المسيري كمثال للتدليل على ذلك.


10 - آفة الترافيك:
مثل الجرائد والمواقع التي تحاول الآن زيادة التوزيع والترافيك traffic أو عدد الزيارات وبالتالي سعر الإعلان بأي شكل ولو على حساب الموضوعية والصدق والتنوير، يوجد أيضا مُدّعِي العلمانية المُحب للأضواء والشوو والتفخيم، وهذا لا يجد حرجا في تشيير بوستات للسخرية من مدى التشابه الشكلي بين إسلام بحيري والمصارع باتيستا وما إذا كان بحيري هو نفسه باتيستا في مهمة على ضفاف النيل، أو في التغريد بتويتة تسخر من مقولة وزيرة التضامن إن الجنة سيكون فيها فنون وباليه ورقص إيقاعي وليس حور عين وطعام فقط، أو في نشر كوميكس من صفحات آساحبي تسخر من فكرة استحداث نظام الشقق الاستوديو الصغيرة في مصر،،، هو لا يجد حرجا في تشيير ذلك كله طالما أنه يزيد شعبيته والشوو المحيط به وعدد اللايكات التي يتلقاها.


11 - نمط الحياة:
حقًا وصدقًا، فاقد الشيء لا يُعطيه، أو من الصعب جدا أن يعطيه. وبما أن العلمانية في مدلولها الشخصي هي نمط فكري راقٍ يؤمن الإنسان العلماني به إيمانا شخصيا، فإنه من الصعب جدا أن تصدر عنك مواقف علمانية عميقة تجاه الشأن العام إذا كان نمط حياتك الشخصي يكاد يخلو من أي أنشطة علمانية. وإليك هذا التساؤل: هل يمكن التعويل بحق على علمانية مَن يدخر أمواله في أوعية ادخارية إسلامية، أو على مَن يقوم بتعميد ابنه بعد 40 يوما من الولادة وابنته بعد 80 يوما، أو على مَن يصف المثليين جنسيا بأنهم شواذ جنسيا، أو على مَن يقوم بتبخير بيته لصرف الحسد، أو على مَن يرسل أطفاله دون السابعة لحفظ القرآن؟


12 - صدمة الواقع:
لا يوجد تغيير ثوري جذري فوري.. هذه حقيقة عالمية وتاريخية قاسية مؤكدة، والسنوات الأربع الماضية أكدت أن مجتمعنا ليس استثناء منها. التغيير الحقيقي المستدام هو التغيير التراكمي، ودهان الشباب المتحمس للأرصفة يوم 12 فبراير بعد خلع مبارك كان شيئا جميلا وبريئا، لكنه لا يصنع تقدما حقيقيا في التحليل الأخير، وبوسعك القياس على ذلك كيفما شئت. التغيير الحقيقي يحتاج تمهيدات وتثقيفا وجهدا تراكميا وتوعية وتبصيرا وتخطيطا وتنظيما واصطفافا يرحب بالاختلافات ويحتويها، والسياسة أكثر واقعية من أن تشهد ساحاتها المستحيل يتحقق بين عشية وضحاها. لكن العلماني غير البراجماتي لا يصدق ذلك، وصدمة الواقع التي تلقيناها جميعا جعلته يفقد صوابه كالغريق وأصابت الشق العلمي من علمانيته في مقتل.


هكذا نكون قد أتممنا اختراعنا..