التوقيت الجمعة، 26 أبريل 2024
التوقيت 03:51 م , بتوقيت القاهرة

الحرية قبل التوحيد

نعم فلا اختيار لعبد، والله لا يقبل اعتقادا من عبده إلا انطلاقا من إرادة حرة عاقلة، الحرية أثمن ما في الوجود من نِعم، هي التي تفتح أبواب العمران البشري الصحيح، أما حرمان الإنسان من الحرية دون جريرة أو ذنب، فهو جرم من أعظم الذنوب لكن ما هو أعظم من حرمان فرد من حريته حرمان أمة من حريتها والاستبداد بها، لذا كانت صيحات الرواد من المصلحين في تاريخنا تنطلق من آن لآخر في التنبيه لخطر الاستبداد وإهدار حرية الأمة.


ومنذ اكثر من قرن من الزمان سطر عبد الرحمن الكواكبي مؤلفه الضافي طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، الذي حاول أن يلفت فيه أنظار أمته أن أصل الداء هو الاستبداد السياسي ودواؤه دفعه بالشورى الدستورية، تخيلوا معي شخصنا العلاج منذ أكثر من قرن ولا زلنا نماطل في تعاطي الدواء، سطر الكواكبي كتابه الذي قال في بدايته: " كلمات حق وصيحة في واد إن ذهبت اليوم مع الريح، لقد تذهب غدا بالأوتاد " في إشارة إلى أوتاد كل فرعون، وجه الرجل كلماته للشباب قائلا: "هدية للناشئة العربية المباركة الأبية المعقود آمال الأمة بيمن نواصيهم ، ولا غرو فلا شباب إلا بالشباب " في مصر المحروسة ظل تحرير الأمة من الاستعمار أملا للأمة حتى حررت الأرض، وبقيت إرادة هذا الشعب محتلة تحت عناوين مختلفة.


وظل الحاكم في بلادنا ينظر دوما للشعب باعتباره لا يستحق الحرية، ظل مرادف الحرية في عقل كل مستبد هو الفوضى، فالحرية هي حريته وحده في التفكير والتدبير لنفسه أو للبلاد التي تسلط عليها في غفلة من وعى وإرادة الشعب،  الذي تأثرت فطرته بلا شك بإلف الاستبداد الذى مسخ الطبائع، وأطلق أسوأ ما في النفس البشرية، تماما كما يقول الكوكبي: " إن الاستبداد لوكان رجلا وأراد أن يحتسب لقال أنا الشر وأبي الظلم وأمي الإساءة وأخي الغدر وأختي المسكنة وعمي العار وخالي الذل وابني الفقر وبنتي البطالة وعشيرتي الجهالة ووطني الخراب أما ديني وشرفي وحياتي فالمال المال المال"، ثم يستطرد في وصف ما يحدثه الاستبداد يقول، "أقل ما يؤثره الاستبداد في أخلاق الناس أنه يرغم حتى الأخيار منهم على ألفة الرياء والنفاق ولبئس السيئتان، وأنه يُعين الأشرار على إجراء في نفوسهم بلا اعتراض ولا انتقاد ولا افتضاح .


تأملوا معي تلك الكلمات في وصف حالنا منذ قرن من الزمان، ولنسأل معا ماذا تغير في حياتنا بعد ثورات أو فورات؟ ظلت أقرب إلى الحركة في المكان تعطينا شرها وتحرمنا خيرها لم تصل أبدا إلى طبائع الناس وأخلاقهم، قل لي أين هي القوة المسلحة التي قد تدفع الناس إلى إتقان العمل أو التناصف أو التراحم او التعاون، قل لي أين الاستبداد الذي صنع تقدما أو نهوضا بل انحدارا في النفوس والأحوال.


أي هاوية سنهوى إليها اكثر من ذلك؟ هل هذه هي مصر التي تمناها من ثار في يناير أو حتى يونيو  أظن إن كل إخفاق في إدارة هذا البلد ينعكس على مكانه ومكانته في محيطه كما يقول الكواكبي: " إذا لم تحسن أمة سياسة نفسها، أذلها الله لأمة أخرى تحكمها كما تفعل الشرائع بإقامة القيم على القاصر أو السفيه، وهذه حكمة ومتى بلغت أمة رشدها وعرفت للحرية قدرها استرجعت عزها وهذا عدل".


فلا يسوغ أن يكون الوطن حرا وأبناؤه عبيد او مستضعفون أو معذبون تحت مطارق العيش أو أسوار السجون .


لم ينس الكواكبى في خاتمة كتابه أن يضع روشتة العلاج فيما سماه قواعد رفع الاستبداد، التي لا ينبغي أن تغفلها أمة تريد تحرير أبنائها منه، أولها أن الأمة التي لا يشعر كلها أو أكثرها بآلام الاستبداد لا تستحق الحرية، ثانيا الاستبداد لا يقاوم بالشدة إنما يقاوم باللين والتدريج، أما الأمر الثالث وربما الأهم أنه يجب قبل مقاومة الاستبداد تهيئة ماذا يستبدل به الاستبداد، وهو ما يعرف بسيناريو اليوم التالي لسقوط الاستبداد وهو بناء البديل، الفريضة الغائبة في حياتنا السياسية وأحد أهم شروط تحرير هذا البلد، خلق البدائل الرشيدة معركة بناء البديل السياسي الذي يعتمد الحرية مع العدل قيمه المركزية وأساس مشروعيته وتفرده، لا تنسوا أبدا الحرية قبل التوحيد .