التوقيت الخميس، 18 أبريل 2024
التوقيت 06:11 ص , بتوقيت القاهرة

الحب والجنس واللايكات على بطاقة التموين

 

أحد أصدقائي كانت لديه دائما وجهات نظر معادية لحقوق الملكية الفكرية باعتبارها استغلالا رأسماليا احتكاريا إمبرياليا لحقوق الناس (الغلابة).

وعليه فإنه كان يرى مثلا أن براءة الاختراع ماهي إلا سرقة ويجب إلغاؤها، وأن شركات الأدوية متخصصة في إجبار الناس على دفع مقابل صحتهم، وأن الحصول على نسخ مجانية من البرامج والتطبيقات الإلكترونية المختلفة أمر ممتاز، بل ويجب دعمه باستمرار وعدم تجريمه، وكذلك برامج التورنت وأي مكان تستطيع منه الحصول على نسخ مجانية من أي شيء بدءا من الموسيقى إلى الألعاب والأفلام وأفلام البورنو.. إلخ.

بالطبع فإننا كنا دائما مختلفين، ففي رأيي براءة الاختراع هي مقابل لعبقرية ومجهود قمت من خلاله بإيجاد فكرة من العدم، وبالتالي فإذا لم تحصل على التقدير الذي تستحقه من هذه الفكرة فإنه ببساطة لن يتواجد لك الدافع والحافز للتفكير والعمل.

الفكرة ببساطة أن قوانين براءة الاختراع تضمن لك إذا كنت عبقريا صاحب فكرة مميزة أن تنضم للعصاميين من أمثال بيل جيتس أو مارك زوكربيرج  وتتصدر قوائم الأثرياء.

وشركات الأدوية التي تبحث بالسنوات الطويلة عن علاج لحالة معينة أو مرض عضال، وتجرب عشرات المواد والتجارب وتستخلص مركبات وتصنع غيرها إذا لم تحصل عند توصلها بالفعل إلى الدواء على ما مكاسب تفوق ما بذلته لتكون مخاطرتها أمرا مستحقا فهي لن تبحث من الأساس.

هناك آلاف الأمراض بلا حل ولا أحد يعرف إذا ماكانت أبحاث معينة ستصل بالضرورة إلى حل أم لا، فإذا لم يضمن أنه في حال نجاح المخاطرة سيحصل على مكاسب فسيوفر هذه الأموال من قسم البحث والتطوير ويكتفي بإنتاج الإسبرين وأدوية البرد. وهذا هو أحد أسباب ضعف الصناعات الدوائية عموما في مصر.

كما أننا لو تصورنا أن كل البرامج والتطبيقات والألعاب أصبح الجميع يحصل عليها بلا مقابل، وتغاضت السلطات حول العالم عن تجريم ذلك وملاحقة مرتكبيه، فإن النتيجة مرة أخرى إفلاس هذه الشركات وغياب الخدمة التي تقدمها والألعاب المسلية لمستخدميها (حدث من قبل أن تعرض سوق ألعاب الفيديو لانهيار هائل عام 1983 قاد لإفلاس كثير من الشركات  من بينهم شركة أتاري الرائدة وانهيار كبير في الصناعة، وذلك نتيجة انتشار الألعاب المقلدة والرخيصة بشكل كبير).

والأمر نفسه يسري على صناعة السينما، فالصديق المغرم بالفنون جدا لا يزال يرى أن دفع مقابل مشاهدة فيلم هو استغلال له، وأن الأفضل الحصول على نسخة مسروقة ومشاهدتها، ولا داعي هنا لتأكيد أن السينما المصرية وصناعة الكاسيت وأغاني إلخ كلها تتعرض لأزمة كبيرة بسبب غياب الجدية في  حقوق الملكية الفكرية، وبالتالي فإن صديقي لن يستطيع مشاهدة ما يعجبه عندما تنهار الصناعة.

والأمر نفسه يسري على مشاهدة مباريات الكرة غير المشفرة، والتي ترتبط بحقوق بث مباعة ترتبط بأندية وكيانات وإعلاميين ومدربين وفنيين ولاعبين. فإذا أصبحت المشاهدة بلا مقابل فإن الصناعة نفسها تضمر ولن تجد عظماء الكرة كميسي وغيره، بل ستجدهم يبحثون عن وظيفة تقليدية لتأمين مستقبلهم.

الخلاصة إذن أن  كل نجاح هو مرتبط بتحويل أي عملية إلى عملية صناعية تحميها الرأسمالية التي يعاديها صديقي، رغم كونها  السبب في وجود كل هذه الأشياء التي يحبها.

المهم أن تبريره دائما كان يقوم على فكرة أن لكل البشر حقوق متساوية في الحصول على احتياجاتهم، وأن التمييز السعري ما هو إلا مكافأة للرأسمالي علي (جشعه) إلخ، لهذا فهو يعتبر أن وظيفة الدولة أن توزع الغذاء  والدواء  والسكن وسلع التسلية على كل المواطنين بالتساوي لأنها حاجات أساسية للإنسان.

جاء صديقي هذا غاضبا ذات مرة من سرقة تدوينة كتبها على موقع "فيس بوك" وحصولها على إعجاب الكثيرين، وهنا كان سؤالي لماذا غضبت؟ الإحساس بالتقدير هو أيضا حاجة أساسية للإنسان. لماذا تحصل نتاج تعليمك الأفضل أو وضعك المادي الذي يتيح لك شراء كتب أو تنزيلها مجانا من بعض المواقع على ما لا يحصل عليه من حصل على تعليم أقل أو من لم يكن يملك جهاز كمبيوتر من الأساس الخ، الفكرة ببساطة أن هناك حاجة أساسية له لا يتم إشباعها وعلى المجتمع أن يشبعها له بمنطق صديقي.

بل ولماذا يريد أن ينسب كتابا معينا أو عملا أدبيا لمؤلفه، لماذا لا نكتب على الغلاف (من تأليف انسان)؟، في الواقع لأن المؤلف يريد الشعور بالتقدير بالضبط كما أراده العالم وصاحب براءة الاختراع والمنتج الفني، الفارق فقط هو أن الصناعة لا تقوم على العواطف والأمور المعنوية بل على المكسب المادي وهذا أمر طبيعي ومنطقي.

وبالمثل فالجنس هو أحد أهم احتياجات الإنسان، بل يكاد يكون أهمها بعد الأكل والصحة والتواصل الاجتماعي، بل وربما قبل الأخيرة أيضا  فلماذا لا يستطيع البعض الحصول عليه؟

وبعيدا عن أي قيود في التفكير إذا أردنا حل هذه المشكلة دون وجود علاقة عاطفية أو دون مقابل مادي فماذا تفعل في شخص غير جذاب جنسيا؟ لماذا لا تحل الحكومة مشكلته بتوفير شريك له أو لها من الجنس الآخر على بطاقة التموين لإشباع احتياجاته الأساسية، والتي من المؤكد أنه لو أشبعها فسيكون أداؤه أفضل، لماذا تتميز عن الآخر بكونك لست في حالة كبت بينما يعيش بقية المجتمع مكبوتا ومقهورا؟

بل حتى لو فرضنا أنك تستطيع توفير هذه الخدمة للجميع وأوجدت لكل رجل وكل امرأة ما يحتاجونه فهل تستطيع توفير الحب بالضرورة لكل مواطن ؟ أليس الإنسان في حاجة دائما للشعور بأن هناك من يحبه؟

القضية ببساطة إذن أن فكرة البحث عن الحياة العادلة هي فكرة وهمية، فالحياة العادلة تعني أن كل البشر يتواجدون في ظروف موحدة ومثالية منذ لحظة بداية تكونهم كأجنة بل وربما لن يكون هذا صحيحا  لأن الطفل الأول لن يكون كالطفل الثاني الخ.

ولهذا فإن غالبية الأفكار الشمولية تسعى لضمان العدالة المزعومة لتحويل كل البشر إلى نسخ متشابهة، الأوفرول الشيوعي أو جماعة ذوي القمصان (السوداء أو البنية) هي ذاتها فكرة النقاب الإسلامي أو حتى  ما يسمونه (الحجاب الشرعي ) وهو الذي يتميز بوجود إسدال واسع وغير ملون وغير شفاف.

الفكرة تقوم على تحويل الجميع إلى نسخة متشابهة وسحق اي ميول فردية لدى أي منهم ليتحولوا جميعا الي تروس في آلة ضخمة يحركها مجموعة من المتسلطين.

هذه هي العلاقة في رأيي بين الفردية والرأسمالية وحقوق الملكية الفكرية والحقوق الأدبية، وهي بالضبط نقيض العلاقة التي تتم  بين الشمولية والأفكار ذات اليقينية المطلقة في الصواب والتسلط علي البشر.

لا ينبغي أن نبحث عن سلطة توزع علينا الجنس والحب على بطاقة التموين بالضبط، كما لا ينبغي أن نتصور أن وظيفتها أن توزع( الثروة) علينا جميعا.

إننا في هذه الحياة لا نختار كل ما نواجهه في حياتنا ولكننا نختار كيف نعيشها ونستحق أن نحصل علي مكافأة إذا سعينا لجعل حياتنا أو حياة من حولنا أو حياة البشر عموما أجمل وأفضل.

اعملوا في حياتكم الشخصية والعملية لتكونوا مستحقين للمقابل. الحياة فرص ولكنها ليست منح.

للتواصل مع الكاتب.