التوقيت الجمعة، 29 مارس 2024
التوقيت 09:34 ص , بتوقيت القاهرة

وزارة للأمن الفكري!

ضرورات الأمن القومي.. كليشيه ثابت للرد على أي استفسار في الشأن الخارجي أو الداخلي.. من كثرة تكرار الجملة أصبحت تُزيد الحيرة ولا تُشفي الغليل.. نعم هناك عشرات المؤامرات على مصر.. لكن الشعب يريد تفصيلات للأخطار التي تحاصره.. الأمن القومي المصري من المحيط للخليج.. ظهر التعبير في أيام عبد الناصر ومازال مستمرا.. لكن الأخطار تنوّعت.. التحديات زادت.. التحالفات المعارضة والمؤيدة أكبر من اختصارها في ثلاث أو أربع كلمات.. الناس تحتاج أن تفهم وتُصقل وعيها.. نعيش في طاحونة اجتهادات.. معظمها خاطئ .. وقليلها صحيح.. الاجتهاد أصبح منظرة وتلميع شخصي.. لم يعد يستند إلى معلومات وحقائق وأنوار كاشفة.


ألغينا وزارة الإعلام لأن الدول المتقدمة والديموقراطية ليس فيها هذا المنصب.. صحيح.. لكن هل أصبحنا متقدمين وديموقراطيين؟.. إننا في هذا الوقت العصيب نحتاج وزارة للأمن الفكري.. فهو لا يقل أهمية عن الأمن القومي.. مطلوب حملات تطعيم دورية للمواطنين ضد  التضليل الديني والتصريحات الكاذبة والوردية.. نريد مسؤولين يحترمون عقول شعب نضج وفجّر ثورتين.. مثلا إذا كنا نعادي إيران فلا ينبغى أن نكسب الصراع معها ومع حلفائها بصبغة طائفية.. فهي ليست حربا بين السنة والشيعة.. هذه الترهات شماعات لا علاقة لها بصراع المصالح والمكاسب والأطماع واتفاقيات تقسيم الغنائم.


فمصر السنية قاطعت اقتصاديا تركيا السنية أيضا ورفضت تجديد اتفاقية "الرورو" التي كانت مصر بمقتضاها محطة مؤقتة لنقل البضائع التركية للأسواق الخليجية.. فكان أن جرت إيران الشيعية للاتفاق مع تركيا السنية وتصبح إيران هي محطة توزيع البضائع التركية السنية في الأسواق الخليجية السنية!! وتخسر مصر بذلك وتكسب إيران.. وتضيف طهران لنفسها بعدا جديدا يجعلها أقرب لأن تكون العاصمة الأولى والأقوى والأهم في الشرق الأوسط. 


والمثير للضحك أن نفس هؤلاء الذين يصرخون بتباشير وتفاصيل حرب السنة والشيعة هم الذين يشتمون إيران طوال الوقت لأنها تساند الإخوان.. وليس لدي اعتراض على شتيمة إيران والقول بأنها تنفق الملايين من أجل المد الشيعي، لكنني أرجو من هؤلاء ألا ينسوا أن الإخوان في النهاية جماعة سنية وممكن أن تدعمهم شيعة إيران نكاية فى مصر لكن بشرط أن نتوقف عن ترديد حرب السنة والشيعة.. تماما مثلما من حق أي أحد أن يتجاهل آخر تقارير منظمة الصحة العالمية التي أكدت احتلال مصر المركز المائة وستة وستين على مستوى العالم في معدل إنفاق البلد من ناتجه المحلى على المنظومة الصحية داخل حدوده.. بكل ما يعنيه ذلك من تراجع وضعف المستوى والعناية والحقوق العلاجية لعموم الناس.


 لكن ليس من حق هؤلاء بالتأكيد أن يصفقوا للدكتور مصطفى مدبولى وزير الإسكان حين يعلن بمنتهى الثقة.. ومنتهى الجرأة أيضا.. أنه سيقوم بإزالة كل العشش العشوائية فى مصر خلال سنة واحدة فقط.. لست أدري كيف استطاع الوزير قول ذلك.. ولماذا أصبح الكثيرون فجأة يستهينون بعقولنا وإدراكنا إلى حد أن يزعم أحدهم أنه سيقوم بتطهير مصر من العشش العشوائية فى إثنى عشر شهرا فقط.. كيف ذلك وعلى أي أسس وأين سيذهب سكان هذه العشش؟ ومن أين المال الذي به سيتم بناء بيوت لائقة لهم؟ ومن الذي سيبني؟ وهل هذا الإعلان موجه لنا كمصريين عاديين أم هو إعلان للاستهلاك الرئاسي فقط؟


هذه مجرد أمثلة لتخبط صحفيين ومسؤولين وإعلاميين انزلقوا جميعا إلى ترديد معلومات ومبالغات لا ظل لها من الحقيقة.. أنني عندما أطالب بوزارة للأمن الفكري أقصد استعادة ثقة الناس في الحكومة.. وتحييد الإعلام الذي يسكب بنزينا على النار بقصد أو بدونه.. لسنا في حاجة الآن إلى خطب إنشائية أو كلمات مطاطية أو تصريحات وردية.. مثال بسيط على احتياجنا الشديد للأمن الفكري هو ما يردده إعلام الإخوان من معلومات زائفة أن قياداتهم ستخرج من محبسها في يوليو القادم بعد انتهاء مدة الحبس الاحتياطي.. ولم يكلف أحد نفسه إفهام الشعب أنهم ليسوا محبوسين احتياطيا لأنه صدرت ضدهم أحكام بالفعل!


حيرة أخرى دخلها المصريون أو أُدخلوا إليها بواسطة الإعلام المهيج والمحرض والخاصة بإسلام بحيري وتطاوله على التراث الإسلامي، ودعوة الشوباشي لخلع الحجاب وتعاملت الصحف والتليفزيون مع الحدثين كأنهما مباراة كرة لا بد من منتصر أو مهزوم أو مصارعة أو ملاكمة تنتهي برفع يد الفائز.. المشكلات في كلام البحيري كثيرة.. أولاها الركاكة المنهجية فى إدعاء التمرد والخروج عن المألوف والمتوارث.. أتاحت الركاكة هذه  للدكتور الأزهري نسبة مواقف البحيري إلى سيد قطب وإلى عدد من المستشرقين الذين قفزوا إلى استنتاجات بعيدة من سياقات التاريخ والفقه الإسلاميين.. ثانيهما أن البحيري لا يعرف ماذا يريد بالضبط.. على سبيل المثال، يُحمل في عدد من حلقات برنامجه السابق "مع إسلام" الأئمة القدماء مسؤوليات إصدار فتاوى الإعدام وإقامة الحد وغيرها بالاستناد إلى أحاديث ضعيفة مما أفضى في رأيه إلى إباحة الاستبداد والقتل والأنظمة القمعية.


يجوز براحة ضمير كاملة وصف كلام البحيري بالفقه الاستهلاكي، ذلك أنه لا يتجاوز قواعد الفقه الأساسية فحسب، كما يتهمه الأزهري والجفري، لكنه يبحث عن الإثارة في نواح أشبعت درسا ونقدا وتحليلا وباتت العودة إليها أشبه بالضرب في الميت.. لكنها مع ذلك تظل تجذب المستمعين المتذمرين من يوميات حياتهم الصعبة ويبحثون عما يحملونه مسؤولية بؤسهم في غير مصادر هذا البؤس الواقعية.


في المقابل، ما مشكلات آراء الجعفري والأزهري؟ كثيرة أيضا.. ذلك أنهما على صواب عندما يريان أن الأزهر منهج ومدرسة في التفكير وليس مجرد أبنية ومكتبات، وأن المنهج هذا رسخ على امتداد البلاد الإسلامية من حضر موت إلى شنقيط .. لكن (وثمة لكن كبيرة هنا) لا يجيب أى منهما على سؤال – لم يخطر أصلا في ذهن البحيري – عن كيفية تسيّد هذا المنهج، وما هو المنطق التاريخي أو المسار الفكري العام الذي جعل آلاف الأئمة والشيوخ والفقهاء والعلماء يتفقهون عليه على امتداد أكثر من ألف ومئتي عام، أي بعد انتهاء القرون الثلاثة الأولى بعد البعثة النبوية؟


كيف صيغ هذا المنهج؟ ولمصلحة من؟ وكيف اكتسب شرعيته؟ ليس الفقهية وحدها بل الاجتماعية والتاريخية والسياسية؟ وكيف نجح في فرض هيمنته على الإسلام ( المقصود هنا طبعا الإسلام السني) طوال هذه القرون


لا جواب ..


فى مكان ما تلتقي دعاوى البحيري مع دعاوى لا تقل استعراضية أطلقها الإعلامي شريف الشوباشى لتنظيم تظاهرة "مليونية نزع الحجاب"، التي قال الرجل عنها إنها تهدف إلى "محاربة التطرف والإسلام السياسي".. بداهة إن استعراضية عمل كهذا إذا حصلت (التظاهرة مقررة مطلع مايو المقبل) تداني المأساة، ذلك أنها تستبدل قمعا بقمع وإرهابا بإرهاب وقسرا بقسر.


الأدهى أن ما يقوله البحيري وما يدعو الشوباشي إليه، بسبب السطحية والاستعراضية والتهافت العام، يصب الماء في طاحونة القوى الأشد محافظة.. مما يستدعي عملا مضاعفا على نزع حجب كثيرة.