التوقيت الجمعة، 29 مارس 2024
التوقيت 05:58 م , بتوقيت القاهرة

بهذه الطريقة.. ستنتصر الميليشيات!

لا أخفيك انزعاجي الشديد من مسار الحرب الدائرة الآن في المنطقة. نقطة مُحددة تفاقم مخاوفي وتُشعل هواجسي: تضاؤل الرغبة لدى الدول وجيوشها النظامية في خوض معارك حاسمة مع الميليشيات!


نسمع اليوم حديثًا مُكثفًا عن "تجنب المستنقعات"، سواء في اليمن أو غيرها. نسمع من يُحذر من خطر الانزلاق إلى حرب بلا نهاية. "الحُكماء" لديهم ما يؤيد حجتهم من التاريخ الحديث والقديم، سواء لليمن أو لغيرها من البلدان المشتعلة.


لستُ خبيرًا عسكريًا، وهذا المقال ليس دعوة إلى خوض الحرب (في اليمن أو غيرها)، بل هو لا يسعى إلى مناقشة النزاع اليمني أصلاً. ولكن سؤالاً مُحددًا يحيرني: إذا كانت كُل حرب هي مأزق ينبغي تجبنه، فمتى بالضبط ينبغي أن تخوض القوات المسلحة نزاعًا مُسلحًا؟. ولماذا وُجدت الجيوش إذن، إن كان يتعين عليها- ومن حيث المبدأ- ألا تخوض حربًا تنطوي على خسائر؟


مرة ثانية؛ لستُ خبيرًا ولا أدعو لحشد الجيش المصري للحرب في اليمن أو غيرها. أدعو فقط لمناقشة عقلانية حول هذا الخيار. الكلام عن الخسائر المُحتملة ليس حجة مُقنعة. ليس حجة على الإطلاق. 


ما يزيد من حيرتي هو السؤال التالي: كيف ستزول التهديدات التي تتمطى في المنطقة، طولاً وعرضًا؟ هل ستتبخر؟ كيف يُمكن مواجهة هذه التهديدات إذا كانت العقيدة القتالية للجيوش العربية النظامية هي تجنب خوض حروب تنطوي على خسائر عالية؟


بهذه الطريقة.. بهذا النهج في التفكير ..الميليشيات سوف تنتصر! لدي خبر سيئ: الميليشيات تنتصر بالفعل!


في الأسابيع الماضية استعادت الحكومة العراقية تكريت (مدينة يقطنها 300 ألف نسمة) من يد داعش، ولكن هذه الأخيرة صارت على مسافة عشرة كيلومترات من قلب العاصمة السورية دمشق (المعركة في مُخيم اليرموك). الحرب بالنسبة لداعش مسرحها هو المنطقة الواسعة. هزيمة الدواعش في موضع يعوضها تقدمهم في محل آخر. بهذه الصورة يُصبح دحرهم مستحيلاً. 


التحالف المناهض لداعش ليس لديه هذه النظرة الاستراتيجية. هو يخوض معارك صغيرة منعزلة هنا وهناك. ينظر إلى الأشجار ويُغفل الغابة. الأخطر أن الدول العربية، بل والولايات المتحدة، ما زالت تنظر لداعش بوصفه تنظيمًا إرهابيًا يُمثل امتدادًا للقاعدة. لا شيء أبعد عن الحقيقة من هذا الفهم. داعش ليست امتدادًا للقاعدة. داعش حلت محل القاعدة، وتكاد تكون أزاحتها من "سوق الجهاد العالمي".


داعش دولة تُماثل الأردن في مساحتها. لديها هيكل تنظيمي مُركب (لأبي بكر البغدادي نائبان، كلاهما عمل في السابق لواءً في الجيش العراقي!)، وتتمتع بموارد مالية ذاتية (تُسيطر على 60% من نفط سوريا). داعش دولة إرهابية، وليست مُجرد تنظيم خارج على السُلطة، أو جماعة إرهابية تستهدف المصالح الغربية (كما الحال مع القاعدة).


خوض المعركة مع داعش بالقطعة لن يُجدي. سيؤدي في النهاية إلى وضع هو أقرب إلى الاحتواء منه إلى الاجتثاث. 


الواقع أن هذا لا يسري على داعش وحدها، وإنما على "الحالة الميليشياوية" التي تجتاح المنطقة. الميليشيات- السُنية والشيعية على حد سواء- في وضع أقوى من الدول التي تواجهها. بعضها لديه سندٌ  سياسي معقول من قوى إقليمية بل ودولية (حزب الله/ الحوثيين)، وبعضها لديه قوة مالية ومددٌ من المقاتلين (داعش)، وجميعها لا ينقصه السلاح (تسليح داعش يضم دبابات أمريكية ومدرعات "الهامفي" ومركبات مُضادة للألغام).


على أن نقطة القوة الرئيسية للميليشيات لا تتمثل في السلاح أو المال، وإنما في استعداد أفرادها للموت في مقابل وهن عزيمة الجيوش النظامية على خوض معارك فاصلة تنطوي على خسائر بشرية عالية. باختصار: استعداد الميليشيات للخسارة البشرية أعلى كثيرًا من استعداد الدول لتقبل مثل هذه الخسارة، سواء كانت تلك الدول من المنطقة أو خارجها.


هذه معادلة خاسرة.


يُمكن حصار الميليشيات من الجو. يُمكن قطع اتصالاتها ووقف زحفها بضربات مُكثفة من المدفعية  والطيران. غير أن هذا لن يُسفر في النهاية إلا عن استرايتجية احتواء. القضاء على الميليشيات يتطلب استرايتيجة مختلفة. استرايتجية هجومية تعتمد المبادأة ولا تتجنب الاشتباك. تجنب الاشتباك في هذا النوع من المعارك يُعطي مزية هائلة للخصم، لأنه يمنحه فرصة المبادأة.


إذا أردنا الانتصار في الحرب على مصير المنطقة علينا أن نُغير الاستراتيجية. علينا أن نتقبل أن الحروب سوف تنطوي على خسائر، وأنها لا تُخاض فقط من الجو. هذه مُقدمة ضرورية يُمكن بعدها مناقشة الاعتبارات المختلفة لكل نزاع. فلا أحد يُريد التورط في حرب خاسرة. أما النفور المبدئي من أي عملية عسكرية خارج الحدود باعتبار أنها تُمثل "مستنقعاً"، فلا يستقيم كأساس لمناقشة منطقية وموضوعية.