التوقيت الإثنين، 06 مايو 2024
التوقيت 10:09 م , بتوقيت القاهرة

للبطولة رجال!!

ثلاث سنوات مرت على إصابة ابني الأكبر النقيب محمود مرسي في اشتباك وتبادل لإطلاق النار مع بعض البلطجية على الطريق الدائري.. هذا اليوم الذي أذكره أصبح محفورا في ذاكرتي لا تمحوه الأيام والليالي ولا تضعه أبدا في سلة المحذوفات.. فقد أصبح يوم 3 / 4 / 2012  إلى مكون أساسي في عقلي الباطن أذكره كل ساعة، ولا تفارق مخيلتي أبدا صورة محمود وهو يدخل إلى مستشفى الشرطة بمدينة نصر في سيارة الإسعاف وحوله أكثر من مائة رجل من ضباط وأمناء الشرطة وأهالي المعادي والبساتين وشبابها المحبين لضابط شرطة احترم نفسه فاحترمه الجميع وأحبوه؛ لأنه أدى واجبه بتفان وإخلاص شديدين، فكان حب الناس هو مكافأته الكبيرة من رب الناس.


أذكر تفاصيل هذا اليوم وأحداثه كأنها وقعت منذ ساعات قليلة.. يومها استيقظت مبكرا كعادتي للذهاب إلى عملي وكنت معتادا ألا أغادر المنزل إلا بعد أن يصل محمود صباحا، بعد أن ينهي عمله ليلا كمعاون مباحث بقسم البساتين.. ولكن شعورا غريبا كان يراودني يومها دون سابق إنذار وإحساسا بأن هذا اليوم لن يمر على خير.. تأخر محمود هذا اليوم فلم أنتظر أكثر وبالطبع لم أتصل عليه لأني أعلم أنه في مأمورية ولن يتمكن من الحديث معي.


وتوجهت إلى الجريدة حتى وصلت لدار التحرير بشارع رمسيس، وعلى باب مكتب رئيس التحرير وكان وقتها الزميل المحترم الأستاذ محمد الشرقاوي – رن جرس الموبايل وكان رقم النقيب محمد السيسي زميل محمود في قسم البساتين وبمجرد حديثه معي أدركت أن هناك حدثا ومكروها أصاب محمود.. أخبرني السيسي أن محمود أصيب إصابة خفيفة وأنه في طريقه لمستشفى البنك الأهلي بالطريق الدائري.. وعرفت منه أن الإصابة بطلقات خرطوش فأدركت أن الإصابة في العين.


وسمع الأستاذ الشرقاوي المكالمة فوضع سيارته تحت تصرفي بالسائق الخاص به وبالفعل توجهت إلى المستشفى وأنا أتخيل حجم الإصابة التي لحقت بابني الأكبر، ورغم أني كنت أتوقع حدوث أمر كهذا في أي وقت لأنها لم تكن المرة الأولى التي يتم فيها إطلاق النار على محمود منذ عمله بالمباحث وحتى يوم 28 يناير 2011 عندما أحرق البلطجية سيارته على باب القسم بعد أن أحرقوا القسم نفسه، ثم أطلقوا النار عليه هو وبعض ضباط المباحث بالقسم بأسلحة آلية، حتى أن البعض اعتقد أنه قتل في هذا الاشتباك ولكن الله سلم ونجا محمود من الموت المحقق على أيدي البلطجية في أحداث الفوضى ساعتها.


وفي الطريق اتصل بي النقيب السيسي مرة أخرى ليخبرني أنهم في الطريق لمستشفى الشرطة بالحي السابع بمدينة نصر، فتوجهنا إلى هناك لنصل قبل سيارة الإسعاف التي كانت تقل ابني المصاب.. وبمجرد دخولي للمستشفى تخيلت أني في مستشفى الحسين الجامعي أو مستشفى حلوان العام.. فالفوضى في كل مكان والناس في الطرقات تسب بألفاظ خارجة والأصوات تتعالى هنا وهناك.. وتذكرت المستشفى ساعة افتتاحه وكيف كان قبل أحداث يناير أحد المستشفيات المتميزة في مصر، ولكنها الفوضى التي أفسدت كل شئ في مصر. 


وصلتْ سيارة الإسعاف تحمل ابني الأكبر فلم انتظر حتى تتوقف وأسرعت بالجري خلفها والدموع تتساقط من عيني رغما عني حتى شاهدته والدماء تغطي وجهه وملابسه؛ لأن الطلقة كانت من مسافة قريبة فأصابت جسده كله.. ولكن الإصابة الأخطر كان في العين فقد اخترقت طلقة الخرطوش العين، واستقرت على جدار المخ ولولا ستر الله لكان الأمر أسوأ بكثير لو تحركت الطلقة مليمترا واحدا.


الوضع في مستشفى الشرطة ساعتها كان سيئا للغاية ورغم وجود استشاري للعيون، إلا أن التدخل كان مثالا للعجز والعار في وقت واحد وسمعت بأذني عميد طبيب وهو يبلغ بأن الحالة انفجار تام بالعين وفقد تام للرؤية .. وعندما شاهدت الدماء تسيل من العين أخبرتهم بضرورة وقف النزيف فكان الرد الفضيحة من نفس الطبيب الذي أبلغ بالحالة فقال لي بالحرف الواحد" ده مجرد نزيف والعملية تتعمل دلوقت أو بعد أسبوع مش هتفرق " فسلمت أمري لله راضيا بحكمه وشاكرا له أن ابني مازال حيا يرزق.


وفي نفس اللحظة كان المقدم خالد الدمرداش رئيس مباحث البسساتين قد تحرك من تلقاء نفسه إلى مستشفى العيون الدولي، وقام بالاتصال بزملائه بمديرية أمن الجيزة ومنهم المقدم مصطفى محفوظ رئيس مباحث الدقي ساعتها والذي استدعى الدكتور عمرو البكري من أحد المؤتمرات العلمية وتدخلت كل قيادات مديرية أمن الجيزة لإزالة أي عقبات.. وتم نقل محمود للمستشفى الذي استقبله باهتمام بالغ وسط وجود كبير من زملائه ورؤسائه.. وفي أقل من خمس دقائق تم إدخال محمود لغرفة العمليات لإجراء جراحة لوقف النزيف الخارجي الذي طلبت منهم في مستشفى الشرطة التدخل لإيقافه والذي أخبرني الطبيب هناك أن العملية مش هتفرق تتعمل دلوقت ولا بعد أسبوع !!



استمر علاج محمود طوال هذه السنوات داخل مصر وخارجها، وأذكر هنا موقف اللواء محمد إبراهيم يوسف وزير الداخلية الأسبق ومعهم اللواء مروان مصطفي واللواء أبو بكر عبد الكريم واللواء هاني عبد اللطيف واللواء أسامة الصغير الذين كان لهم جميعا مواقف لا أنساها.


ورغم حصول النقيب محمود على نوط الشجاعة والامتياز وتكريمه، إلا أن الوسام الأكبر الذي حصل عليه هو حب الناس الذي لا يدانيه حب والذي حصل عليه بحبه لوطنه ولعمله.


اليوم تمر ثلاث سنوات على ذكرى إصابة النقيب محمود مرسي.. الضابط البطل الذي كان يواجه طلقات الرصاص بصدر مفتوح دون حسابات الخوف من الموت أو من الإصابة حتى أطلق عليه لقب وحش البساتين.


واليوم يكتب محمود تدوينة على صفحته يقول فيها " Haapy tal2a day عدت تلات سنين وكل مره ببقي مصمم اكتر من اللي قبلها لو رجع بيا الزمن تاني هعمل نفس اللي عملته من تلات سنين فنفس الدقيقه دي بالظبط...انا مش زعلان وبحمد ربنا علي كل النعم اللي حافظلي عليها سواء من اهلي او اصحابي او فشغلي وحياتي".



وهكذا هم الأبطال دائما يا بني لا تكسرهم المحن ولا الشدائد.. وكما تؤكد أنت أنك ستكرر ما فعلته يوم إصابتك وأنت تؤدي واجبك بدون خوف ولا تفكير في أنك يمكن أن تصاب أو أن تموت في أي مواجهة كما يفعل البعض، فأنا أيضا أذكرك بأنك لو لم تفعل هذا فلن تكون ابني الذي ربيته على الإيمان بالله وعلى طهارة اليد والقلب.. وعلى الوقوف كرجل وسط الشدائد.. وعلى أداء الواجب كما ينبغي مهما كانت الظروف.. وكما تؤكد أنت أنك ستكرر ما حدث منك ساعة الاشتباك مع البلطجية والمجرمين.


ورغم إصابتك إصابة مباشرة في العين  فأنا أؤكد وأكرر أني فخور بك وبأنك ابني الذي أكرمني الله به ..فخور بأني انجبت رجلا بمعنى الكلمة.. فخور بك وبكل زملائك من رجال الشرطة الأوفياء الذين قدموا حياتهم واستشهدوا لحماية هذا الوطن من مؤامرات ومكائد تهدف لإسقاط مصر.. فخور بك وبكل زملائك المستمرين على عهدهم في الدفاع عن وطنهم حتى آخر طلقة في سلاحهم وحتى آخر لحظة في حياتهم.


أكررها مرارا وتكرارا.. فخرا وتيها بابني وبزملائه في الشرطة وفي الجيش.. الباقين على عهدهم في حماية الوطن في الداخل والخارج.. اللهم انصر مصر وأخرجها من محنتها على خير وانصرنا على أعدائنا وأعداء السلام والإسلام يارب العالمين.. اللهم أمين.