التوقيت الجمعة، 19 أبريل 2024
التوقيت 02:20 م , بتوقيت القاهرة

السياسة مصالح وليست مذاهب.. دروس لشيعة اليمن وسنة العراق

(1)
في أواسط القرن العاشر الميلادي ( الرابع الهجري) دخلت جيوش معز الدولة بن بويه إلى بغداد مقر الخلافة العباسية، كانت الخلافة العباسية في ذلك الوقت تمر بمرحلة من التخبط والضعف بدأت قبل ذلك التاريخ بتسعة عقود مع ازدياد نفوذ القادة الأتراك وتحكمهم في الدولة، وتحول الخليفة العباسي إلى حاكم صوري لا يستطيع حتى أن يحكم رقعة صغيرة من الأرض، فيحكمها عنه وزراؤه وقواده القادرون على عزله وسمل عينيه(جعله كفيفا) متى شاءوا.


أسس البويهيون دولة قوية ثم زحفوا إلى بغداد فسيطروا عليها وأصبحوا هم المتحكمون في الخلافة لأكثر من قرن بعدها، ما يهمنا هنا أن البويهيين كانوا شيعة، بينما الخليفة العباسي سني، ومع ذلك ظل البويهيون يحكمون الدولة دون إلغاء الخلافة العباسية ودون مبايعة خليفة من العلويين أو حتى مبايعة الخليفة الفاطميّ الذين كانت خلافتهم قائمة بالفعل، بل وتمددت باتجاه مصر والشام في وجود البويهيين، ومع ذلك لم يسعَ البويهيون إلى دعم الخلافة الفاطمية.


كان البويهيون من الشيعة الزيدية (الخمسية)، ويقال إنهم تحولوا لاحقًا للشيعة الإمامية الإثنا عشرية، بينما كانت الخلافة الفاطمية من الشيعة الإسماعيلية (السبعية)، ولكن لم يكن هذا الاختلاف هو سبب عدم مبايعة البويهيين لخليفة شيعي، فقد كان من الممكن أن تتم مبايعة خليفة شيعي من العلويين وفق المذهب الذي يعتنقونه، كان السبب في رفضهم سياسيًا وليس دينيًا.


فقد فكر معز الدولة البويهي في خلع الخليفة العباسي وتولية خليفة علوي مكانه بالفعل، ولكنه نُصح بالنصيحة التالية: "أنك اليوم مع خليفة تعتقد أنت وأصحابك أنه ليس من أهل الخلافة، ومتى قتلته أجلست بعض العلويين خليفة، اعتقدت أنت وأصحابك صحة خلافته، فلو أمرهم بقتلك لفعلوا.


فببساطة كان المنطق السياسي قائمًا على فكرة أنك عندما تكون الحاكم الفعلي المطاع في دولة حاكمها الصوري تراه أنت وجنودك حاكمًا  غير شرعي فقد ضمنت بقاء سلطتك للأبد، أما لو  جئت بحاكم تراه أنت وجنودك حاكمًا شرعيًا فقد أصبح نفوذك وربما حياتك مهددة.


بالطبع كانت هناك تخريجة فقهية لذلك الموقف القائم على المصلحة السياسية البحتة للبويهيين، وتلك كانت القاعدة التي ينفرد بها المذهب الزيدي وهو (جواز إمامة المفضول في وجود الفاضل)، والتي جعلت موقفهم بإبقاء خلفاء ليسوا الأحق في فكرهم موقفًا مقبولاً وفقًا لمذهبهم، وهكذا نجد أن البويهيين وجدوا حلا سياسيًا سحريًا بتخريجة فقهية وقووا هذا الحل، فتزوج عضد الدولة البويهي من ابنة الخليفة الطائع لله، بينما تزوج الأخير أيضًا من ابنة عضد الدولة.


لاحظ أن البويهيين كانوا شيعة زيدية، وهو ذات المذهب الديني للشيعة في اليمن  ومنهم الحوثيون، وأن مذهبهم يعتبر المذهب الشيعي الأقرب للمذاهب السنية. المهم من هذا كله أن البويهيين أعطوا درسا مهما  في الفارق السياسي بين التشيع الديني والتشيع السياسي، ودرسًا مهمًا في كيفية رسم الواقع وفق مصالحك لا وفق مصالح الآخرين.


(2)
في عام 1618 اندلعت حرب الثلاثين سنة، والتي كانت حربًا متعددة المراحل ومتعددة الفرقاء وبعض أطرافها تغيّرت مواقفهم أثناء الحرب، أهم ما يميز تلك الحرب أنها كانت الحرب المذهبية الكبرى في أوروبا بين الكاثوليك والبروتستانت، برغم كونها في الأساس حربا طائفية  فإن الدول الأكثر رسوخًا في غرب أوروبا كانت تخوض الحرب لأسباب سياسية بحتة، ويقف موقف فرنسا كحالة واضحة على تناقض المصلحة الوطنية مع الأفكار المذهبية، وعلى الانحياز لمصلحة الوطن.


كانت فرنسا آنذاك أحد أقوى الدول الكاثوليكية، وكان الرجل القوي في حكومتها هو الكاردينال ريشيليو وزير الملك لويس الثالث عشر، كان ريشيليو هو الحاكم الفعلي لفرنسا، وكان سياسيًا ورجل دولة لا يُشق له غبار، ولكنّه أيضًا كان كاثوليكيًا كغالبية الفرنسيين، بل وأكثر من ذلك كان رجل دين، ووصل لدرجة أنه تم ترسيمه كاردينالاً، أي أنه كان في ثاني  أعلى درجات التراتبية لرجل الدين الكاثوليكي بعد البابا.


كان التحالف الكاثوليكي يقوده إمبراطور الأمبراطورية الرومانية المقدسة الهابسبورجي  وملك إسبانيا  الهابسبورجي أيضًا (فرعين من نفس العائلة)، وكان ملك إسبانيا هو ذاته ملك البرتغال وهولندا، قبل أن تُنهي الحرب هذا الوضع باستقلال البلدين بعد كفاح استمر ثمانية عقود من الهولنديين بالذات بسبب مذهبهم البروتستانتي. ولكن المفارقة أن ريشيليو رسم سياسة فرنسا خلال الحرب على أساس تحالف فرنسا ودعمها السري أو العلني لكل خصوم التحالف الكاثوليكي.


لماذا ؟ لأن فرنسا كانت محاطة بإسبانيا والبرتغال جنوبا وهولندا شمالاُ وأراضي الإمبراطورية الرومانية المقدسة شرقًا أي أن ممتلكات الهابسبورجيين الكاثوليك كانت تحيط بهم من كل الاتجاهات تقريبًا، لهذا دعم الرجل الثوار الهولنديين البروتستانت ضد إسبانيا، ودعم جيش السويد (البروتستانتية) ضد النمسا الهابسبورجية الكاثوليكية، ثم دعم التمرد البرتغالي ضد إسبانيا عام 1640.


المهم هنا أن الحرب المذهبية الأخطر انتهت بتحول فرنسا إلى قوة كبرى في أوروبا وإلى تراجع وانهيار الأمبراطورية الرومانية المقدسة، وإلى استقرار المنظومة العلمانية وحرية العبادة بنهاية الحرب في صلح وستفاليا 1648، ولكن تصرفات الوزير الفرنسيّ العبقرية أثبت مرة أخرى كيف أن السياسة لعبة مصالح لا لعبة مذاهب.


(3)
يحلو للبعض اعتبار أن سبب اندلاع  الطائفية في  المنطقة هو النظام السعودي، هذا الكلام غير دقيق، فرغم كون المنظومة السعودية مبنية على تحالف وثيق مع الوهابية، وكون الأفكار المنغلقة والطائفية منتشرة في المجتمع السعودي داخليا، لكن في الواقع فإن السياسة الخارجية السعودية كانت تقوم علي أساس المصالح لا على أساس المذهب، ولم يتغير هذا الوضع إلا بعد الثورة الإيرانية عام 1979 عندما أصبحت دولة الملالي ترسم سياستها على أساس مذهبي وتهدد دول المنطقة عبر تجنيد مواطنيها الشيعة وقيامها بتصدير الثورة لهم.


أبرز مثال على ذلك أن كثيرين لا يعلمون أن حرب اليمن التي كانت بين الملكيين والجمهوريين، كانت أساسا بين الإمام الزيدي  وبين المتمردين من الجيش والنخب القومية المعادية له المدعومة من مصر، الإمام الزيدي (الإمام البدر) كان ببساطة إذن شيعيا، وينتمي لنفس الطائفة الدينية التي ينتمي لها الحوثيون، فهل دعمت السعودية إذن مصالحها المتمثلة في منع سقوط الملكية في الجزيرة العربية ومنع نظام موالٍ لعبد الناصر يرفع الشعارات الثورية، أم دعّمت المذهب الديني الذي ينتمي له خصومها من المصريين ومعهم بعض اليمنيين غير الموالين للإمام ؟


 لكن في الواقع فإن كثيرين لا يريدون الاعتراف بان الطائفية لم تتحول من مجرد أفكار متعصبة إلى سياسات لدول إلا نتيجة لما فعله الخميني منذ أواخر السبعينات، وأن الحساسية المذهبية نشأت نتيجة الإصرار على محاولة تجنيد كل أتباع المذهب في كل دولة وتسخيرهم لمصالح إيران.


(4)
من الغريب أن يوزع البعض الاتهامات  بالطائفية علي خصومه بينما كل تصرفاته طائفية، الإخوان مثلا أجادوا هذه اللعبة فكانوا يجعلون المسيحيّ مواطن من الدرجة الثانية، فإذا قال المسيحي إنه يرفضهم يقومون باتهامه بالطائفية كأنهم لم يكونوا من صنعوا هذه الطائفية في خطابهم نحوه، ولكن في الواقع فإيران وأتباعها يلعبون ذات اللعبة، فهم يحولون أي معركة إلى معركة طائفية ثم يتهمون الآخرين بذلك.


أبرز مثال علي ذلك أن كثيرين منهم  موقفه العدائي لصدام أو للبعث العراقي ليس منبعه خلاف أيديولوجي أو سياساته القمعية، وإلا لكان لهؤلاء نفس الموقف تجاه الأسد والبعث السوري  وسياساتهم القمعية، ولكنّهم مع ذلك  يعتبرون حقوق الإنسان والديمقراطية أولوية قصوى عند الحديث عن صدام، بينما يتاجرون بالممانعة والمقاومة عند الحديث عن الأسد، ولكن في الواقع فما يخفونه ظاهر بوضوح أنهم مع من تؤيده إيران في أي مكان.


(5)
ولاية الفقيه ليست فكرة أساسية في الفكر المذهبي الشيعي، لن تجدها أبدا في المصادر القديمة، لم تظهر إلا على استحياء في القرون الأخيرة، ولم تكن أبدا ولاية مطلقة، ولكن آية الله الخميني هو من حول الفكرة إلى فكرة مسيطرة على المذهب الشيعي، وعززها بعد ذلك بدعمها وفرضها داخل إيران وخارجها ليصنع بذلك تلك النظرية التي يملك بها مرشد طهران سلطة روحية وسياسية على الملايين حتى خارج طهران.


ولاية الفقيه هي إسلام سياسي بدرجة فوق المقززة، لهذا فمن الغريب أن يمجد بعض المثقفين العرب هذا النموذج البائس في إطار رفضهم لنماذج أقل بؤسا بكثير.


الطائفية تسقط بالدولة الحديثة، بدولة المؤسسات، بالمواطنة، بالعلمانية، بإعادة ولاية الفقيه إلى القمقم الذي خرجت منه، لن تكون طائفيا  إذا واجهت الطائفيين سواء كانوا إخوانا او داعشيين أو حوثيين أو من حزب الله فليس من حق الطائفيين أبدا  أن يتحدثوا عن نبذ الطائفية.