التوقيت الجمعة، 26 أبريل 2024
التوقيت 05:57 ص , بتوقيت القاهرة

حتى لا تلحق الجديدة بالقديمة !

الثانية والنصف ظهرا.. زحام المرور خانق.. السيارات تتحرك سنتيمترات معدودة.. سائق التاكسي الذي ركبته متبرما وساخطا .. فاجأني بسؤال "متى ستنتهي العاصمة الجديدة يا أستاذ لنرتاح من هذا الزحام؟".. وقبل أن أجيبه بادرني قائلا: " عسى ألا تلحق بمدينة السادات التي فكر فيها قبل 40 عاما وأصبحت مجرد اسم.


سائقو التاكسي هم ترمومتر الشارع المصري، وأفضل رد فعل على قرارات الحكومة لأنهم في العموم أول من يتأثر بها سواء في أسعار السلع أو الخدمات أو قوانين المرور وغيرها.. السؤال جعل شريطا سينمائيا يمر أمام عيني عن فكرة العاصمة الجديدة.. والحقيقة أن السادات لم يكن صاحب الفكرة، وإنما اقتبسها من مشروع عكف عليه بعض أساتذة كلية الهندسة ومنهم الراحل حسن فهمي والد فريدة فهمي راقصة فرقة رضا الأولى.. في عام 1969 قدم لآخر حكومات عبد الناصر مشروعا لنقل العاصمة إلى محافظة المنيا.. خطته كانت إنشاء عاصمة إدارية تبعد عن القاهرة ما لا يقل عن أربع ساعات، ليكون توطين الموظفين والوزارات والهيئات إجباريا، ولا ينتهى بانتهاء الدوام الرسمى فيعودوا للقاهرة مرة أخرى وتزدحم وتختنق من جديد.


حسن فهمي قرأ مبكرا خطورة إنشاء مدن جديدة لا تبعد عن القاهرة القديمة سوى كيلومترات بسيطة.. رؤيته كانت صحيحة.. فلم تنجح مدن الرحاب والشروق ومدينتي و6 أكتوبر والشيخ زايد وقبلهم 15 مايو في تخفيف زحام القاهرة، بل على العكس زادته حدة.. كل المدن الجديدة حول القاهرة أصبحت بفضل شبكة الطرق السريعة والكباري مجرد أحياء في العاصمة القديمة.. من ثم جاءت فكرة السادات أن يبني مدينة بعيدة عن القاهرة للدرجة التي تقنع الناس بالسكن النهائي بها والانتقال إليها مع أسرهم.. لكن الفكرة ماتت بموت صاحبها كما يحدث لكل الأفكار في مصر.. تتنفس طالما صاحبها على قيد الحياة ويوارونها التراب بعد رحيله ويبحثون عن فكرة جديدة.


وفى أواخر عهد مبارك، طرح أحمد المغربي وزير الإسكان في حكومة نظيف مشروع القاهرة الجديدة 2020، وتصدى له جبابرة الحزب الوطني، زاعمين أنها ستكلف الدولة مبالغ طائلة لا قبل لهم بها، وعندما أكد أن المشروع استثماري يموله القطاع الخاص والأجانب، قيل إنه يريد بيع مصر للعرب والخواجات.


وبتولي الرئيس السيسي ظهرت الفكرة مرة أخرى، لكنه كان أذكى من كل سابقيه لأنه وفر التمويل، قبل أن يعلن عن العاصمة الإدارية الجديدة التي ستتولاها شركة إماراتية، مشهود لها بالسرعة فى الإنجاز والأمانة في التنفيذ.


ومثلما أصبحت العاصمة الجديدة حلما لسائقي التاكسي وسكان القاهرة الذين اختنقوا من الزحام، فإنها أيضا وبنفس الدرجة ستساهم في إحياء إقليم قناة السويس، فهي تبعد حوالي 60 كيلومترا من مدن السويس والعين السخنة شرق الطريق الدائري الإقليمي.. ونأمل أن تنتقل فعلا الوزارات والهيئات والسفارات ومجلس الشعب والبنوك والمعارض إليها.


اجعلوا القاهرة عاصمة حضارية سياحية.. لكن في الوقت نفسه لا نريد أن تكون هذه العاصمة ذريعة للاتجار السياسي والمزايدة، فقد أعلن د . مصطفى مدبولى وزير الإسكان أن بناءها يستغرق 12 عاما، وكذلك فعل وزير الاستثمار أشرف سالمان، فإذا برئيس الوزراء يفاجئنا بأنه قرر الانتقال إلى العاصمة الجديدة خلال عامين .. مع العلم أن بناء عمارة واحدة يستغرق أحيانا عامين! وإذا كنا نرغب حقيقة في إنهاء التكدس السكاني والمروري، فلا بد أن نوفر مساكن للموظفين ومدارس وننهي الارتباط الروتيني بالقاهرة.. فلا يصح أن ننهي المعاملات الإدارية بالعاصمة الجديدة ثم نحتاج توقيعا نهائيا من القديمة ليكتمل التصديق على الأوراق.


من أهم الرؤى أيضا تأهيل العاملين الذين سيتم نقلهم لتلك العاصمة، حتى لا تتكرر أخطاء مدينة السادات، عندما رفض الموظفون الانتقال إلى وزارة التعمير وقتها، فتحول مقر الوزارة إلى جامعة المنوفية.. هذا التأهيل أهم شيء في مشروع يتكلف 80 مليار دولار.


وقبل كل ذلك يتوجب على الدولة التجهيز والتخطيط لشبكة مواصلات تخدم العاملين في كل الوزارات والهيئات الحكومية والدبلوماسية التي سيتم نقلها إلى هناك، وهو أيضا الأمر الذي يجعلنا نتساءل لماذا لا تنفق المليارات في التخطيط لذلك بدلا من إنشاء كباري وطرق للعاصمة الإدارية القديمة التي مقرر توقيف العمل فيها.


وهنا يستمر السؤال في طرح نفسه إذا كان مجلس الوزراء ينتوي الانتقال للعمل بالعاصمة الإدارية الجديدة خلال عامين، فلماذا تنفق الدولة 3.5 مليار جنيه في تنمية طرق تخدم مصالح العاصمة القديمة، وكأن تصريحات وزير الاستثمار، والتي تؤكد أن العاصمة الإدارية الجديدة ستستغرق 12 عاما هي الأصدق، ولهذا تتجه الدولة إلى مثل هذه المشروعات الخدمية التي تخدم مصالح العاصمة القديمة التي سيستمر العمل بها لفترة زمنية طويلة، وليس لعامين على أقصى تقدير كما صرح رئيس الوزراء المهندس إبراهيم محلب.


وفي ظل حالة التضارب تلك يتوجب على الدولة والحكومة، التي تؤكد أنها تسعى للتعامل مع المواطنين وفقا لمبدأ الشفافية، أن توضح ماذا يحدث بداخلها ولماذا يتم إنفاق مليارات الجنيهات على مشروعات تخدم العاصمة الحالية، إذا كانت تنتوى بالفعل نقل المؤسسات والوزارات إلى العاصمة الإدارية الجديدة خلال عامين على أقصى تقدير.


 وما الخطة البديلة لحل أزمة الاختناق المرورى بالعاصمة الحالية حال صدق تصريحات السيد وزير الإستثمار بأن العاصمة الإدارية الجديدة سيتم الإنتهاء منها خلال فترة زمنية قدرها 12 عاما، وذلك حتى لا يشعر المواطن المصري بأن هناك عقلين يديران الدولة، وأنه لا يوجد تنسيق بين الهيئات والوزارات والمؤسسات المختلفة بها.