التوقيت الأربعاء، 08 مايو 2024
التوقيت 04:26 ص , بتوقيت القاهرة

عنف الرهبان

"رعب أكثر من هذا سوف يجيء "
وردت تلك العبارة في أحد قصائد الشاعر الكبير الراحل " صلاح عبد الصبور" فصارت تعبيراً مخيفاً عن واقع زماننا التعس  الآن.. ذلك الذي تحمل أيامه الممرورة أنات أنفاسنا المكسورة تحت وطأة العنف والإرهاب والقتل والذبح والحرق لأسباب لها علاقة بالهوية متمثلة فى مجرمي داعش والإخوان.. أو لأسباب اجتماعية واقتصادية ونفسية وجنسية لجوع قاهر أو ذهان عقلي أو عاطفة محرمة أو يأس متراكم.


والناس في بلادنا الذين كانوا يؤمنون "أن الشر إن بات مات"، تحولوا خلال الثلاثين عاماً الماضية إلى كائنات تحتشد لعنف تعافه الوحوش الضارية وتهابه الطيور الكاسرة وتكرس لرعب يتصاعد لا يخفت.


إن المتأمل للجرائم التي ارتكبت في الأيام الماضية يدرك جيداً هول التغيير الذي حدث فى الشخصية المصرية، وخاصة فيما يتصل بممارسة العنف والتصفية الجسدية بسادية وتوحش بديلاً لعواطف التسامح والمحبة والود  والتراحم وسلوكيات العفو عند المقدرة "والحلم الذي هو سيد الأخلاق".. والعتاب الرقيق.. والصفح الجميل.


بهذه المناسبة أضحكني كثيراً ضحك كالبكاء ذلك الذي حدث من انقسام الرهبان لدير الأنبا مكاريوس "بوادي الريان" بعد إصدار الكنيسة بياناً للتبرؤ من الدير و(6) من رهبانه، وإعلانها أن الدير غير معترف به، وأنها أخلت مسؤوليتها عن تعنت ورفضهم إنشاء الطريق الدولي (الفيوم – الواحات)، ومن استيلاء الرهبان على مساحة ( 12000 فدان ) بشكل غير قانوني وبناء سور عليها بطول ( 8) كيلومترات.. والانقسام بين الفريقين بين مؤيد للبيان ومستنكر له.. تطور إلى اشتباكات لغوية باستخدام الأسلحة البيضاء والشوم وجزوع الأشجار وقطع الحديد، مما أدى إلى كثير من الإصابات.


وتتضح المفارقة التراجكوميدية في تحول الرهبان الذين من المفترض أن يتسم سلوكهم بالوداعة والسكينة والتسامح وإنكار الذات والتسامي ونبذ ليس فقط مشاعر الكراهية والحقد والإيثار والمطامع الدنيوية.. ولكن إنكار العالم نفسه وإيمانهم العميق بشفافية الروح التي باعت الدنيا  بكل ما تحمله من شرور وتطاحن وتكالب على الشهوات، حيث ( باطل الأباطيل و قبض الريح ) طمعاً في حياة روحية قدسية ينعمون فيها بالسعادة الأبدية، فيتحولون فجأة إلى عنف بالغ غير متوقع من الزاهدين الناسكين الوديعين والتورط فى سلوك إجرامي يستخدمون فيه السكاكين.


في مقابل تناقض آخر ينبغى أن نتوقف عنده طويلاً، وهو أن الكنيسة التي لا تعترف الآن بشرعية الدير، وتتضامن مع الحكومة فى قرارها بإنشاء الطريق الدولي هي نفسها التي أصدرت قراراً باباوياً ( 2012 ) يعترف فيه بالدير، وقالت أن الهدف منه حينها هو تيسير أعمال الدير وتسهيل التعامل مع الدولة سواء في شراء أرض أو إصدار بطاقات للرهبان لتكون مقومات لتجمع رهباني ناجح.


هذا في نفس الوقت الذي تزمع " الجمعية المحافظة على التراث المصري " في تقديم ملف بالأزمة إلى منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة ( اليونسكو ) في خطوة تصعيدية ضد إقامة الطريق لما فيه من أضرار على الآثار المصرية بالمنطقة منها معبد فرعوني يقع فى اتجاه الطريق المزمع إقامته، فضلاً عن وجود مغارات أثرية يعود تاريخها للقرن الرابع الميلادي، هذا بالإضافة إلى احتواء المكان على آثار من العصرين الروماني والقبطي.


وهكذا فإن التناقض في التوجهات بين جميع الأطراف فجر تمرد الرهبان الذين انتفضوا ضد ما اعتبروه إهانة بالغة تشمل تهديداً سافراً، ليس لكيانهم الروحي فقط، بل لوجودهم نفسه.. فأي طاعة وأي ولاء وأي انتماء للقيادة، وهم يرون مكانهم المقدس يتم التعدي عليه.. إنها مسألة حياة أو موت إذاً. وبناءً عليه فأإن راية العنف ترتفع ويصبح المنطق مقلوباً، فالمكان المقدس يتم الدفاع عنة بطريقة غير مقدسة .


ورعب أكثر من هذا سوف يجيء.