التوقيت الثلاثاء، 07 مايو 2024
التوقيت 01:45 ص , بتوقيت القاهرة

البابا شنودة.. "نظير جيد" الشخصية الاستثنائية في تاريخ الكنيسة

لم تكن مرحلة شباب البابا شنودة الثالث "نظير جيد" منفصلة عن حياته كبطريرك، فكل ما مر به ذلك الطفل والشاب نظير جيد، كون شخصية استثنائية للبابا الـ117، فهو الطفل اليتيم الذي أحب القراءة منذ صغره، وهو الشاعر الموهوب، وضابط الاحتياط الحازم، والشاب الحالم بالإصلاح. فقد مر قبل الرهبنة بمراحل عديدة أعدته جيدا لتولي هذا المنصب.

طفولة غير عادية

ولد الطفل نظير جيد رافائيل، الذي تحل ذكرى رحيله اليوم، في 3 أغسطس عام 1923، لأسرة ميسورة الحال بقرية سلام بمحافظة أسيوط، إلا أنه لم يقضِ طفولته كمعظم من في سنه، فقد توفيت أمه بحمى النفاس بعد ولادته بومين، حيث يقول معاصروه إنه كان محبا للوحدة، وشغوفا تجاه القراءة أكثر من اللهو، وقد تسببت مفاجأة موت أمه في نسيان عائلته لقيده وتسجيل شهادة ميلاد له، بعد أن انشغلوا في إجراءات الدفن وما يصاحبها.

فلم يستطع نظير أن يلتحق بالمدرسة سريعا، ما شجعه على تعويض ما فاته بالقراءة، فيقول عن تلك الفترة "كنت أقرأ كل ما يقع تحت يدي بلا استثناء، ونمى شغفي بالقراءة والمعرفة حتى بعد دخولي المدرسة، وأتذكر تحديدا أنني قرأت كتاب قادة الفكر لطه حسين وأنا لم أتعدَ الخامسة عشر من عمري، بالإضافة للعديد من الكتب في التاريخ والسياسة والشعر والأدب المصري والعالمي".


وعن علاقته بالشعر، يقول إن علاقته الأولى بالشعر كانت في سن الـ16، بدأت ببعض أبيات غير مبنية على قواعد، لأنه لم يدركها، وكانت أولى الأبيات التي كتبها نظير عن أمه التي لم يراها، فقال: 
"أحقاً كان لي أم فماتت.. أم أني خُلِقت بغير أمي
رماني الله في الدنيا غريبا.. أحلق في فضاء مُدلَهِمِّ
وأسال يا زماني أين أحظي.. بأخت أو بخالٍ أو بعمِ
وأسأل عن صديق لا أجده.. كأني لست في أهلي وقومي
وهل أقضى زمانى ثم أمضي.. وهذا القلب في عدم ويتم".


فيديو البابا شنودة يحكي عن طفولته وشبابه

نشاط سياسي وتربية عسكرية

ألتحق نظير بجامعة فؤاد الأول بمجانية تفوق عام 1943 ليزامل في كلية الآداب أنيس منصور ومراد وهبة، وفي تلك الفترة كون نظير صداقة مع مكرم عبيد باشا، وكان عضوا بالكتلة الوفدية، وكان يلقي القصائد باجتماعات الحزب، حتى إن مكرم عبيد وصفه بـ"شاعر الكتلة الوفدية"، وحينما حدث الخلاف بين مكرم عبيد ومصطفى النحاس ألقى نظير قصيدة هجاء في أحد الاجتماعات، قال فيها "الشعب منك تبرم.. وللإله تظلم.. وأنت في الحكم تلهو.. وفي الملأ تتحكم.. تلهو وتظهر نبلا.. حتى أنبرى لك مكرم"، وهو ما جعل مكرم عبيد يقوم من مكانه ليحتضنه ويحييه أمام الجميع.

ويحكي صديقه بالجامعة يسري سدراك أنه بعدما ألقى تلك القصيدة لاحقه البوليس السياسي في ذلك الوقت، وفتش منزله بعنف، مدمرا بعض أثاثات المنزل، بحثا عن القصيدة، إلا أن نظير لم يكن محتفظا بالقصيدة إلا في عقله.

ويقول البابا شنودة عن تلك الفترة "تركت السياسة سريعا لأني شعرت أنها لا تناسبني"، وقد تخرج من الجامعة بتقدير ممتاز عام 1947، وهو نفس العام الذي تخرج فيه من الكلية الأكلريكية، حيث كان يجمع بين دراسته العلمية والدينية.
 

صورة نظير جيد ومكرم عبيد


ثم التحق بالكلية الحربية كمتطوع عام 1947، ورغم اندلاع حرب عام 1948 وقتها، إلا أنه لم يستدعى للقتال، ويؤكد البابا شنودة أن هذه السنة التي قضاها بالكلية الحربية كان لها أثر بالغ في حياته في تعلم الانضباط.


صورة الضابط نظير جيد


مدارس الأحد وحلم الإصلاح
كان نظير تلميذا للمصلح الشهير حبيب جرجس، وكانت الكنيسة القبطية تعاني من ضعف التعليم والمعاهد الدينية، كما لم يكن البطريرك في ذلك الوقت البابا يوساب الثاني قادرا على إدارة الكنيسة لسيطرة خادمه المدعو "مِلِك" على أوضاع البطريركية.

وكان نظير مؤمنا بما آمن به معلمه حبيب جرجس، وهي أن حل مشاكل الكنيسة سيأتي بعد تعليم النشء وإصلاح المعاهد الدينية، التي ستفرز بعد ذلك القيادات الكنسية على المدى البعيد، فكان نظير يتردد دائما على بيت مدارس الأحد بروض الفرج بشبرا، ليعمل مع مجموعة من الأكلريكيين في تعليم الأطفال والشباب، أملا في أن يأتي الإصلاح على يديهم، ولكنهم شعروا أن هذا لا يكفي، فلا بد أن يصل صوتهم لجميع الفئات بما فيها القيادات الكنسية.

ففي أبريل 1947 اشترك نظير مع مجموعة كبيرة من الأكلريكيين في تأسيس مجلة مدارس الأحد بمباركة أبيهم الروحي حبيب جرجس، وكان من بين مؤسسيها الفيلسوف مراد وهبة، الذي كان يكتب مقالات دينية قبل أن يترك تلك المجموعة ليتفرغ لدراسة الفلسفة، بالإضافة لوهيب عطالله (الأنبا غريغوريوس أسقف البحث العلمي)، وسليمان نسيم وغيرهم، وكان شعار المجلة صورة المسيح وهو يحمل السياط لطرد الباعة الذين دنسوا الهيكل، في إشارة لاتجاه المجلة لإصلاح الكنيسة.

صورة غلاف مجلة مدارس الأحد



صورة لأول مقال بأول عدد

وكانت مشاركة نظير جيد الأولى في العدد الأول لها في قصيدة عن الكنيسة القبطية بعنوان "أبواب الجحيم"، وأعلنت هيئة التحرير أن الإصلاح هو هدفها الأول، وركزت على أهمية الكلية الأكلريكية في النهوض بالكنيسة باعتبار أن التعليم هو النواة الأولى للإصلاح.

كما هاجمت المجلة التي رأس تحريرها نظير في ديسمبر 1949، طرق رسامة الكهنة والأساقفة دون النظر لمؤهلاتهم العلمية والإدارية، ولم تكتفِ فقط بذلك، بل تحدثت عن أهمية تعديل لائحة انتخاب البطريرك لتتفق مع التقاليد والقواعد الكنسية.

كما هاجمت المجلة بشدة سيطرة المجلس الملي على شؤون الكنيسة، مشيرة إلى أن وضع المجلس الملي وقتها غير كنسي ولم يحدث في تاريخ الكنيسة.

صورة لمقال يهاجم سيطرة المجلس الملي على الكنيسة


 

وقبل ذهاب نظير جيد للدير للرهبنة في يوليو 1954، أصدر أشهر سلسلة مقالات كتبها، والتي عرفت باسم "انطلاق الروح"، والتي غلب عليها الطابع الذاتي والرهباني، وتأثر بها عدد كبير من الشباب في ذلك الوقت، بما فيهم من أصبحوا قيادات الكنيسة فيما بعد.
 

صورة لكتاب المقالات لأحد أعداد المجلة

صورة شعار كثيرا ما رفعته مجلة مدارس الأحد لإصلاح الأكليريكية

جانب حقوقي

رغم إن الإصلاح الكنسي كان هو الشغل الشاغل للمجلة، إلا أنها كانت مهتمة بحقوق الأقباط، خاصة في ظل محاولات استهداف التنظيم السري للإخوان المسلمين للأقباط في ذلك الوقت، وبرز ذلك الاهتمام عند نظير جيد عندما حرق الإخوان كنيسة بالسويس والمصلين الأقباط بداخلها وهم أحياء، وقاموا بالتمثيل بجثثهم في شوارع وطرقات مدينة السويس.

فكتب نظير جيد مقالا تحت عنوان "هدية العيد"، وقال فيه "إننا نطالب الحكومة، لو كانت جادة فعلا في الأمر، لو كانت حريصة على احترام شعور ما لا يقل عن 3 ملايين من رعاياها، نطالبها بمحاكمة المحافظ ومعرفة مدى قيامه بواجبه كشخص مسؤول".

ووجه رسالة للأقباط قائلا "بولس الرسول ضرب وسجن وجلد ورجم حتى ظن أنه مات واحتمل كل الاضطهادات في فرح، ولكن ذلك لم يمنعه من أن يقول لقائد المائة في استنكار :"أيجوز لكم أن تجلدوا رجلا رومانيا غير مقضى عليه؟ ولكن فى احتجاجكم كونوا عقلاء وكونوا مسيحيين، طالبوا بحقوكم بكل الطرق الشرعية التي يكفلها القانون، وقبل كل شيء ارفعوا قلوبكم إلى الرب".

ومن المفارقات المكتوبة بالمقال قوله "لقد ذهب رئيس الوزراء إلى قداسة البابا البطريرك وعانقه، كما قرر مجلس الوزراء تعويضا قدره 5000 جنيه لترميم الكنيسة.. ونحن نقول إن مجاملات الحكومة لا تنسينا الحقيقة المرة، وهي الاعتداء على أقدس مقدساتنا، ولكي نعطي فكرة واضحة عن الموضوع نفترض العكس، ولو حدث أن جماعة من المسيحيين -على فرض المستحيل- حرقوا مسجدا، وجماعة من المسلمين.. هل كان الأمر يمر بخير وهدوء؟"

وتساءل: "هل كان يحله عناق البطريرك وشيخ الأزهر أو اعتذار يصدر من المجلس الملي ومن جميع الهيئات القبطية؟ لا أظن هذا.. إنها ليست مسألة شخصية بين الوزارة والبابا البطريرك، وإنما هي هدر لمشاعر ملايين من الأقباط وإساءة إلى المسيحيين في العالم أجمع ولا تحل هذه المشاكل بعناق أو اعتذار أو عبارات مجاملة أو وعود، وإنما تحتاج إلى عمل إيجابي سريع يشعر به مسيحيو مصر أنهم في وطنهم حقا".

ولم يكن نظير يتوقع أنه سوف يكون في يوم من الأيام في موقع البطريرك في حوادث مشابهة.

صورة مقال هدية العيد