التوقيت السبت، 27 أبريل 2024
التوقيت 07:05 م , بتوقيت القاهرة

مصر قريبة وبعيدة وغريبة

في روايته الممتعة "الجبل الخامس"، يقول باولو كويلهو على لسان أبطاله :"قال كبير الكهنة: لا أهمية للألم، مقارنة بنشوى أنني أديت واجبي.


تساءل إيليا دهشًا: أكان واجبك تدمير مدينة الناس الصالحين؟


قال كبير الكهنة:المدينة لم تمت، فقط مات سكانها وما يحملونه من أفكار، وذات يوم سيأتي آخرون إلى "أكبار"، يشربون مياهها، والأحجار التي تركها أصحابها،سيأتي كهنة آخرون لينظفوها ويعتنوا بها.


اتركني الآن،سينتهي ألمي قريبًا، بينما يأسك سيلازمك طوال حياتك".


في الرواية، يعاقب الكاهن الأكبر سكان مدينته، حيث نما فيهم حب القراءة والمعرفة، ورأى أن كلمة الرب تقضي بأن يموت هؤلاء، حتى ولو كان على يد الأعداء الذين سيدخلون المدينة ليحيلوها رمادًا، بل ساعد هم في ذلك لتتم كلمة الرب، فليذهب الجميع إلى الجحيم إذا عارضوا أحكامه (الكاهن/الإله).


في الرواية يتعارك الجميع: الحاكم، الكاهن، قائد الجيش، التجار، في حين ينصب الأعداء خيمهم على حدود المدينة، ولا أحد يصدق "إيليا" بأن الخطر يتربص بهم، حتى الحاكم الذي كان يؤمن بحكمته، حيث استطاع الكاهن أن يورط الجميع لأجل تدمير المدينة التي تجرأت على الاقتراب من كهنوت المعرفة.


نحن نخوض الآن معارك شبه يومية، بل هي يومية في الحقيقة، نتجادل ونتعارك، ونستهلك طاقة يوم أو أيام لنعرف (أو لندعي السعي نحو المعرفة): هل مصر قريبة؟ هل مصر بعيدة؟



في الحقيقة إن مصر تقف الآن غريبةً تمامًا، هل يتذكرها أحد في معاركه؟ هل يسعى إليها أحد أصلاً؟، هل يبتغيها صادق؟


كم من وجوه ارتدت رداء الشرف، والوطنية، والتضحية، وادعت البصيرة، ثم قبضت الثمن في أول فرصة؟  كلٌ يغني في الواقع على ليلاه، والأغلبية تتشمم طريقها نحو "خلاص" تظنه، وكأن المركب حين تغرق، ستترك أحدنا على قيد الحياة!.


المركب حين تغرق يا سادة، تغرق بمن فيها، فالبحر لا يفرق بين عاصٍ وحسن النية، بين مخلص وساذج، بين وطني وخائن، لو أننا بلا جدران وأسقف، ما جدوى الأموال التي تكتنز في البنوك؟! لو أننا بلا جوازات سفر تحمل عنوان وطن، ما نفع أخرى تحمل لقب لاجئ؟!.


مصائر الأوطان ليست مادةً للسخرية، والدفاع عنها ليس نزهة، واحترام الاختلافات فرض عين، والتعامل بمسؤولية تجاه الوطن هو طوق النجاة الوحيد.


مصر التي نعرفها لا تزال قريبة، لكنها فى الوقت نفسه بعيدة، وأخشى أن تقف ذات يوم وحدها غريبةً تمامًا بلا أىٍ منا.