التوقيت الأحد، 05 مايو 2024
التوقيت 12:41 م , بتوقيت القاهرة

خطاب الرئيس لم يذكر حمزة نمرة هذه المرة

(1)


كثير من الناس يحلمون ولو مرة في حياتهم بأن يصبحوا رؤساء. وغالبا ما يرتبط هذا الحلم بالرغبة في الإصلاح، في الإحساس بالقدرة على "تقويم" الأمور. قليل من هؤلاء يحققون حلمهم. ومن هؤلاء الذين يحققون حلمهم، فيصلون إلى الرئاسة، عدد قليل ينجح. 


لماذا؟ أين تذهب "النوايا الطيبة"؟


أولا: أزعم أن "النوايا الطيبة" لا تذهب إلى مكان. حتى الرؤساء الذين تصدر منهم أفعال "شريرة" لا يكونون بالضرورة أشرارا. النوايا الطيبة تظل موجودة، لكن الكفاءة المهنية للأجهزة التي تدير الدولة لا تكون كافية لإحداث التغيير المطلوب. كما أن الرقابة نفسها تحتاج إلى كفاءة، إلى خبرة، إلى أدوات ووسائل متطورة.


ثانيا: أدعي أن "النوايا الطيبة" جزء أساسي من المشكلة. لأن الاهتمام بالنوايا الطيبة يضيع فرصة اتخاذ إجراءات ناجعة، أو على الأقل تضللنا، تجعلنا نكتفي بها، ونعتقد أن الحياة لا بد ستكافئنا على ما قدمناه من "طيبة". هذا القانون الأسطوري الذي يعتقد بشر من كافة المشارب الفلسفية أنه موجود في السحاب، يجازي الطيبين في الدنيا على طيبتهم، وينتقم من "الأشرار" في الدنيا على شرهم. قراءة بسيطة للتاريخ سنكتشف معها أن هذا غير حقيقي بالمرة، أن هذه أكبر كذبة نربي أطفالنا عليها.


لو أردتِ مثالا على هذا من حياتنا اليومية تذكري أنكِ حين تسألين عن طبيبة تذهبين إليها تستخدمين تعبير "عايزة دكتورة شاطرة"، وليس "عايزة دكتورة طيبة". أما لو لديك بزنس فلن تكتبي أبدا في شروط وظيفة أنك تريدين موظفين طيبين.


ثالثا: قيم "الطيبة" نفسها نسبية جدا. هي مجموعة من القيم التي يرضى عنها مجتمع معين. المجتمعات المتخلفة ترضى عن قيم متخلفة، وتعلي قيمة سلوكيات "كويسة" لكنها لا تستحق كل هذا الاحتفاء. وأحيانا تعلي قيمة صفات سلبية، دون أن تدري أنها سلبية، لأنها تحولت إلى بديهيات. بعض المجتمعات يعطي للسن الأكبر قيمة غير مبررة على الإطلاق، وتعتبر التقليد "حكمة". 


وهذه غالبا مجتمعات تسير في الدنيا بظهرها، وتتوجه نحو القديم، وتمجد ما ابتلعته دوامة الزمن. تلك مجتمعات "من فات قديمه تاه"، التي يظهر اعتقادها هذا في كل شيء، التي تعتقد أن التحديث - الذي هو سنة البشر الوحيدة من عصر الإنسان الحجري إلى الآن - وجهة نظر، وأن مجتمعا ما يمكنه أن يلفظه دون أن يتأثر سلبا. في استطراد بسيط، قد يحدث هذا، لو استطاع هذا المجتمع أن يحدد عدد سكانه، وأن يحمي حدوده، وأن يتحكم في التغير المناخي من حوله، وفي القواعد الدولية التي تحكم المجتمعات، إلخ. أي أننا نستطيع أن نوقف التاريخ إن نجحنا في تثبيت حالة الكون.


رابعا: الرئاسة ليست فردا. الرئاسة منظومة، تحكمها فلسفة، وينفذها بشر. مقر قيادة للأمة، يجب أن يجمع داخله نخبة من العقول النابهة، المميزة، الأفضل في مهنتها ومهمتها.


 


(2)?


الرئيس السيسي تأتيه شعبيته من الاتصال المباشر مع الناس. وتأتيه الانتقادات من أحاديث المتحدثين باسمه. هل يعفيه هذا؟ لا. بعض من المتحدثين باسمه مجرد أشخاص لن يستطيع أن يسكتهم بغير حكم من القانون، وهم بارعون في الإيحاء دون أن يصرحوا. لا شأن لنا بهم الآن. الرئيس تتحدث باسمه - كونه رئيسا - مؤسسات عدة. وجود أشخاص على قدر أقل من المطلوب من الكفاءة في تلك المؤسسات مسؤولية الرئيس طبعا. ولنبدأ بأمثلة بسيطة، الأشخاص الذين مهمتهم استقبال رؤساء الدول الأخرى وضيافتهم بعزف السلام، وهي مهمة بسيطة جدا. لكن أي انطباع يعطونه إن لم يحسنوا مهمتهم!


مسؤولو مراسم لا يحسنون استقبال صحفيين. مخرجون لا يحسنون أداء أبسط مهارات الإخراج. مسؤولون سياسيون لا يفهمون حدود سلوك السياسي فعلا ولفظا، علنا وسرا. كل هؤلاء يشتتون الناس عن جهد كبير مبذول. ولو استمروا في "إحباطاتهم الصغيرة" سيؤدون إلى إحباط كبير.


مقر القيادة يحتاج إلى أناس يؤدون مهماتهم بكفاءة، أناس واسعي الأفق، قادرين على المراوغة وعلى خداع الخصوم، وعلى رد الصفعة بصفعتين. لو استعرنا التعبير الطبيعي، تحتاج إلى أناس "على قمة الهرم الغذائي".


(3)


ثم قد يكون لدينا نظام سياسي حتى المنوط بهم "تقويمه" يساهمون في تحميله نتائج انحرافهم عما هو منوط بهم. مثال: النقابات في العالم كله وظيفتها الدفاع عن العاملين، حتى لو أخطأوا. معاقبتهم ليست وظيفة النقابة إلا لو كانوا "موظفين نقابة"، عاملين لديها. إنما في مصر الوضع مقلوب: نقابة المهن الموسيقية تفصل مطربا لأنه غنى أغنية لا تعجبها سياسيا، أو أخلاقيا، أو اجتماعيا.


نقابة الصحفيين تحولت إلى هيئة تحدد من يحق لهم أن يحملوا اللقب ومن لا، حتى لو كانوا يعملون في مؤسسات صحفية منذ أعوام. في الدول الغربية النقابة تسارع إلى دعوة العاملين الجدد إلى الالتحاق بها، لأن في التحاقهم قوة لها. هم الذين يمولونها، وهم الذين يعطونها أهميتها وثقلها السياسي. حين تتحول النقابات في نظام سياسي إلى امتدادات للسلطة، بمعنى أن تصبح هي الأخرى سلطة على أعضائها، فهذه ثغرة في كفاءة النظام السياسي، يتحمل الحكم مسؤوليتها.


(4)


تحدث الرئيس أمس عن شيماء الصباغ وعن أحداث الدفاع الجوي، ثم تحدث عما نسبه تسجيل إلى أحد العاملين في مكتبه. إحدى مهام من يسعون إلى تقويض الدولة - وليس معارضة السلطة - هي السعي الدائم إلى تعريف السياسة المصرية بسلبياتها، لتقليص حجم الحديث عن التقدم. ولن نستطيع أن نتغلب على هذا إلا بسد "ثغرات الكفاءة".


اليوم الذي سيحتاج فيه الرئيس إلى كلمة واحدة فقط للرد على أي تساؤل، هي كلمة القانون، سواء مع حمزة نمرة أو مع أحمد عز أو مع علاء عبد الفتاح أو شيماء الصباغ أو أو، سيكون يوما سعيدا في تاريخ مصر. يوما يضمن لنا أن البدايات الطيبة لا يفسدها الاتكال على النوايا الطيبة. بل يسندها ويدعما الاعتماد على الكفاءة ـ الجدارة.


الجَداروقراطية سر النجاح.