التوقيت الأحد، 19 مايو 2024
التوقيت 06:28 م , بتوقيت القاهرة

تركيا وأمريكا يتقدمان في لعبة القرن.. حتى الآن

عندما زار رجب طيب أردوغان الصومال في أغسطس 2011، كان أول رئيس دولة يزور الصومال خلال عشرين عاما. في مارس من العام التالي رقص الصوماليون ابتهاجا بوصول أول طائرة للخطوط الجوية التركية إلى مطار مقديشيو. هذه شركة الطيران العالمية الوحيدة، من خارج شرق إفريقيا، التي تسير رحلات طيران إلى العاصمة الصومالية.


حجم الاستثمارات التركية في إفريقيا تضاعف 23 مرة منذ 2003 حتى الآن. تركيا بدأت عام 2005، الذي أسمته عام إفريقيا، خطة اقتصادية تجارية صممت على أساس "خطط التنمية" التي وضعتها دول في القارة السمراء لنفسها. في السياسة المدخل إلى النجاح هو "كيف نحقق منفعة مشتركة".


منطقة القرن الإفريقي مهمة جدا اقتصاديا، سوق بكر وجد فيه رجال الأعمال الأتراك، كما الصينيون من قبلهم، فرصا متعددة للربح. لكنها مهمة سياسيا أيضا. هذه إحدى المناطق المحورية في "استراتيجية الحرب الطويلة" التي أعلنتها الولايات المتحدة عام 2006، كرؤيتها لمحاربة الإرهاب. جوهر هذه الرؤية أن الإرهاب كائن هلامي، خنقه أفضل من الاشتباك معه. وقد نجح الأتراك في جعل أنفسهم مفيدين لتنفيذ هذه الاستراتيجية.


يحتاج الإرهابيون إلى بيئة حاضنة. هذه البيئة أساسية لنمو الإرهاب، ولا عيش له من غيرها. اعتمدت الاستراتيجية الأمريكية على ما أسمته "مساعدة الشعوب كي تساعد نفسها". ينبغي ألا ننخدع بالعنوان. فهذا المبدأ يعني أيضا أن تدرك الشعوب، البيئات الحاضنة، أن الإرهاب سيضرهم كما يضر غيرهم. وبمقتضى هذا المبدأ تبنى الأمريكان فكرة أن تختار الشعوب (المسلمة) حكامها حتى لو كانوا إسلامجية. وجودهم في الحكم سيحولهم إلى كيان نظامي يحاسب على أفعاله. ويلغي حجة النقمة الشعبية على الأمريكيين بسبب دعمهم لحكام لا تريدهم شعوبهم. ولو أخطأوا وانقلبوا على أمريكا؟ ما أسهل تأديبهم وقتها، توجيه ضربات إلى كيان نظامي إسلامي أيسر من توجيه ضربات إلى كيان هلامي.


حزب العدالة والتنمية التركي كان عراب هذا التوجه، وقدم نفسه كنموذج في العالم السني، وقدم أصدقاءه للأمريكيين. هل هذه مؤامرة؟ لا. هذه سياسة. لقد استطاع الأتراك أن يضعوا أنفسهم مرة أخرى في موضع جيد من ملعب السياسة. موضع يغري الآخرين بنقل الكرة إليهم.


ثم إن الإرهابيين يختارون النائي من المناطق. حيث لا اهتمام دولي، ولا حكومة مركزية. الاستراتيجية الأمريكية أقرت قاعدة أن "لا ملاذ آمنا للقاعدة". كيف؟ بترصد الأماكن التي تتوفر فيها هذه الشروط. في إفريقيا مثلا، حددت منطقة القرن الإفريقي كبقعة مهيأة لنمو نشاط إرهابي. بلد كالصومال، كان وقتها بلا حكومة، لن يتوانى الإرهابيون عن ملء الفراغ به. ولا بد للأمريكيين أن يسبقوهم لملء الفراغ، أو يزاحموهم عليه من البداية.


وهل تستطيع أمريكا أن تفعل ذلك؟ هل تستطيع أن تشتت جيشها خلف الإرهابيين هنا وهناك؟


صعب جدا طبعا. من هنا جاء مبدأ آخر في هذه الاستراتيجية، مبدأ "الاحتفاظ بوجود طويل الأمد". والمقصود به تجنب تحول الحرب مع الإرهاب إلى حرب "استنزاف" للجيش الأمريكي، الذي يحتاج - كجيش نظامي - إلى الحفاظ على استعداده وجاهزيتيه على الدوام، وهذا مكلف جدا ماديا.


البديل؟ قوات نوعية قليلة العدد تستطيع أن تتواجد بشكل دائم. أنشأ الأمريكيون مقرا عسكريا استخباراتيا في جيبوتي يشرف على العمليات في سبع دول إفريقية. ويجمع هذا المقر بين تقديم الخدمة العسكرية "على هيئة خدمات مدنية"، وخدمات إنسانية كالتدريب على المهارات الطبية. وهذا يسمح للأمريكيين، حسب ما جاء في الاستراتيجية، بأن يحتفظوا بعلاقات مع المؤسسات العسكرية في المنطقة، ويضمن عدم بروز وجود للإرهابيين في هذه المنطقة.


التواجد التركي في القرن الإفريقي حقق بهذا غرضين: مصلحة لتركيا، استثمارا ونفوذا، ومصلحة لأمريكا، في دعم "استقرار الوضع"، وفي التبادل الاستخباراتي للمعلومات في هذه المنطقة المحورية.


السياسة ليست "لعبة قذرة" كما نقول. لكنها لعبة قاسية. تحتاج إلى ذكاء، وإلى إدراك للواقع كما هو، وليس المفترض، في نقطة من الزمن. ومن ثم وضع خطة للتحرك، من أجل الوصول إلى هدف استراتيجي معين. تركيا كانت جدار الناتو أمام الشيوعية، ثم صارت حليف إسرائيل الأكبر في المنطقة، ثم صارت عراب الإسلامجية. في كل حقبة زمنية تعرف كيف تفيد أمريكا وتستفيد منها.


هذا سبب إضافي لكي تتوجه مصر نحو إفريقيا. لعل من الصعب أن تنافس الآن، في هذه اللحظة، تجاريا واقتصاديا. لكن لديها فرصة ذهبية لمد جسور التحالفات العسكرية والسياسية. داعش إفريقيا "بوكو حرام" بدأت في نيجيريا وامتدت بسرعة إلى أربع دول إفريقية إضافية، والصحراء الكبرى ممر أساسي لأسلحة تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" في ليبيا. راجعي فقرة "التحالف الذي لا يلتفت إليه أحد" في مقالي "بعد ضربة داعش ليبيا.. ماذا تحتاج مصر عسكريا وسياسيا".


كما أن مصر تملك من المقومات المطلوبة لتصير الحليف الأساسي لأمريكا في هذه المنطقة أكثر كثيرا مما تملك تركيا. لكن هذا قرار ثقافي قبل أن يكون قرارا سياسيا. ينبغي أن نكتسب ثقافة السياسة، أن نفهم ماذا تعني، وأن نتوقف عن استهلاك الشعارات.