التوقيت الجمعة، 19 أبريل 2024
التوقيت 01:35 ص , بتوقيت القاهرة

لماذا لا نستطيع محاكمة القتلة؟

ربما هذا هو السؤال الأهم. فكما تعرف تحت ضغط الرأي العام وتحت ضغط فضيحة مصورة هنا وهناك، يُمكن أن يحدث التراخي، ويتم التضحية بسين أو صاد. أظن أن هذا سيحدث في جريمة القتل البشعة للشهيدة شيماء الصباغ. وسيتم تقديم كبش فداء ما للمحاكمة. 


لعلك تتذكر أن في كل شهداء شارع محمد محمود، وفي كل مصابيه، لم يتم تقديم سوى ضابطٍ واحد، بسبب نشر صوره وأسماه من نشروه "صائد العيون". لعلك أيضاً تتذكر مجزرة "ماسبيرو" و"العباسية" وغيرها وغيرها مما يُوجع القلب.  


الحقيقة المُرة أنه منذ ثورة يناير المجيدة، لم تتوقف جرائم القتل، ولم يتوقف نزيف الشهداء والمصابين. في عهد المجلس العسكري والإخوان والمستشار عدلي منصور وحتى الآن. الحقيقة المرة هي أنه لم يتم تقديم أحدٍ للمحاكمة، والحقيقة الأكثر مرارة أنه حتى من تم تقديمهم للمحاكمة، لم ينالوا العقاب الذي يستحقونه، وأغلبهم كما تعرف حصلوا على البراءة. 


صور شيماء المُوجعة، وصور القتلى غير المعروفين مُوجعة. ربما شيماء أكثر ألمًا، فهي ناشطة وهبت نفسها لما تراه صحيحًا، ولم تتفرغ لزوجها ولابنها. ثانيًا هي امرأة، والمُعتاد في ثقافتنا الشعبية أن للمرأة حصانة ما، حتى لو اعتدت عليك، فلا يُمكنك أن ترد اعتداءها، لكن تعود إلى المسؤول عنها، زوجها، أبيها ، أخيها. أضف إلى ذلك أنها لم تكن مسلحة بأي سلاح. كل ما كانت تحمله هو الورود (يا له من رمز!) في مواجهة القتلة. 


أرجو ألا تكون صدقت الكلام الفارغ الذي قالته الداخلية وأبناء وخدم الأجهزة الأمنية الأغبياء. فمن سوء حظ القتلة أن هناك صورا وفيديوهات تكشفهم . ثم أن وظيفة رجال الداخلية، والتي يحصلون بسببها على رواتبهم ومكافآتهم وامتيازاتهم، من لحم الحي، لحمنا، هي حماية الناس وليس قتلها. فحتى لو لم يكونوا هم القتلة، وهذا مُستبعد، فهم مسؤولون عن إيجاد القاتل في التو واللحظة، ألم يكونوا في ذات المكان الذي سالت فيه دماء النبيلة شيماء؟! 


أعود لسؤالي الأساسي، لماذا لا نستطيع محاكمة القتلة؟ 


السبب هو أننا نطلب من القاتل أن يعطينا أدلة إدانته. هذا حدث في مقتل شيماء. وحدث في مقتل 36 داخل سيارة ترحيلات. وحدث غيره وغيره منذ اندلاع ثورة يناير المجيدة. فإذا كان المتهم من الجيش، فهو الذي يتولى التحقيقات والأحكام. وإذا كان من الداخلية، فضباطها هم المسؤولون عن إعطاء النيابة الأدلة. أي أننا نطالب ضباط الداخلية أن يعطونا الأدلة الحقيقية التي تدين زملاء لهم. وأظن أن هذا غير منطقي، ولا يُمكن أن يوصلنا إلى طريق العدل. 


أظنكَ ستوافقني أن هذا هو مربط الفرس. عدم وجود جهة مستقلة بعيدًا عن سلطان وزير الداخلية ورجاله. وبعيداً عن الحكومة، بل وبعيدًا عن كل سلطات الدولة، يُمكننا أن نثق فيها، ويمكنها أن تعمل بحرية كبيرة. يمكنها أن تحصل على ما تشاء من الأدلة ويمكنها مساءلة من تشاء وإذا تراخ أي من كان تكون عقوبته السجن. 


لماذا لم نفعل ذلك؟ 
بعضنا فعلها، فهناك اجتهادات كثيرة ومشروعات محترمة تم تقديمها لإصلاح وزارة الداخلية. ونقلها من خانة أنها مطواة في يد من يحكم، لأن يكون عملها مهني لا علاقة له بالسياسة، ولا سطوة من أي نوع لمن يحكم عليها. 


مازلت أتذكر قول ضابط الشرطة الشاب الذي كان يدرس معي اللغة الإنجليزية أثناء حكم الإخوان، بأنهم استوعبوا الدرس، ولن يكونوا طرفًا في أي صراع سياسي. أصدق نوايا صديقي الضابط. لكن الحقيقة المريرة هي أن الشرطة أصبحت لها اليد الطولى في الصراع السياسي في بلدنا. بل وتوحشت ضد المواطنين، لدرجة "كلبشة" سائق تاكسي غلبان في الشارع. 


لماذا لم نُصلح الداخلية؟ 
الأسباب كثيرة والتفاصيل أكثر. لكن يُمكنك وضعها تحت عنوان عريض. أن النخبة السياسية بكل تنويعاتها التقليدية، ومعها مؤسسات الدولة، وقفوا ضد هذا التوجه. السبب أن انشغالهم الأكبر كان هو اقتسام السُلطة أو احتكارها، أمّا إعادة بناء دولة حديثة محترمة، فلا أظن كان من أولوياتهم. لذلك ضاعت مشاريع الإصلاح الجادة ولم تجد من يدعمها. إنها الانتهازية الرخيصة التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه. 


أرجو ألا يجرجرك أي من كان للحديث عن دور الشرطة في محاربة الإرهاب، وشهداؤها، فلهم كامل الاحترام والتقديس. وإذا حدث لابد أن ترد أننا نُعظّم دور الشرطة والجيش ضد الإرهاب وليس ضد الأبرياء، وأننا بقدر ما نتصدى لوحشيتهم ضد المواطنين الأبرياء، فهذا يحصر عملهم في محاربة الإرهاب.  كما أنه يمنحهم دعمًا شعبيًا يمكنهم من النجاح ويمكنهم من تقليل نزيف دمائهم. 


إذن المشكلة، كما أعتقد، هي أننا نطلب من القاتل تقديم أدلة إدانته. أظن أنه يُمكن أن توافقني بأنه في الظروف التي تمر بها بلدنا، لابد من أن يكون البحث الجنائي بعيد تمامًا عن الداخلية، ويكون تابع للمجلس الأعلى للقضاء. ولابد أن نُضيف على ذلك أجهزة معاونة للعدالة. وهي الطب الشرعي وخبراء وزارة العدل، فهؤلاء أيضًا لابد من إخراجهم من تحت سطوة السُلطة التنفيذية التي كنا نتمنى ألا تتوحش إلى هذه الدرجة. 


هذا بالطبع على خلفية استقلال حقيقي للقضاء، فبدونه لن يكون ما فات له قيمة (أرجو أن تعود إلى مقالتي السابقة في دوت مصر: لماذا لا نريد استقلال القضاء


أظن أنه يمكن أن توافقني بأن مَنْ يملكون السُلطة وقادرين على تحقيق العدل، إذا لم يفعلوا ذلك، فهم يتحملون كأفراد، بحكم وظائفهم، المسؤولية الجنائية وليست السياسية فقط لدم المصريين في الشوارع. وإذا برأتهم المحاكم، فحتمًا سيأتي اليوم عاجلاً أو آجلاً للقصاص منهم.