التوقيت الأربعاء، 24 أبريل 2024
التوقيت 06:43 م , بتوقيت القاهرة

الثورة الدينية

مع إشراقة شمس العام الميلادي الجديد، وفي اليوم الأول من يناير، شهد الرئيس عبد الفتاح السيسي احتفال مصر بالمولد النبوي الشريف والذي نظمته وزارة الأوقاف بمركز الأزهر الدولى للمؤتمرات، وفي كلمته تحدث الرئيس عن حتمية تجديد الخطاب الديني واحتياجنا لثورة دينية فقال: "لازم نتوقف كثيرًا على الحالة اللي موجودة، وأنا اتكلمت في الموضوع ده مرة واتنين الحقيقة قبل كده، نتوقف كثيرًا قدام الحالة اللي إحنا موجودين فيها، مش معقول يكون الفكر اللي إحنا بنقدسه ده يدفع بالأمة دي بالكامل إن هي تبقى مصدر للقلق والخطر والقتل والتدمير في الدنيا كلها، مش ممكن يكون الفكر ده، أنا مش بقول الدين أنا بقول الفكر ده، اللي تم تقديسه، نصوص وأفكار تم تقديسها على مئات السنين وأصبح الخروج عليها صعب أوي لدرجة إن هي بتعادي الدنيا كلها، بتعادي الدنيا كلها، يعني الواحد والستة من عشرة مليار هيقتلوا الدنيا كلها اللي فيها سبعة مليار عشان يعيشوا هم؟!مش ممكن.


 الكلام ده أنا بقوله هنا في الأزهر، أمام رجال وعلماء الدين ، والله لأحاجيكم يوم القيامة أمام الله سبحانه وتعالى على اللي أنا بتكلم فيه ده دلوقتي، أنت مش ممكن تكون وأنت جواه حاسس بيه، مش ممكن تكون وأنت جواه حاسس بيه، لازم تخرج منه وتتفرج عليه وتقراه بفكر مستنير حقيقي، دا أنتو محتاجين تتوقفوا بشدة، وأنا بتكلم وأقول تاني: إحنا محتاجين ثورة دينية، فضيلة الإمام أنتو مسؤولين أمام الله، الدنيا كلها منتظرة منكم، الدنيا كلها منتظرة كلمتكم، لأن الأمة دي بتُمزَّق، الأمة دي بتُدمَّر، الأمة دي بتضيع، وضياعها بإيدينا إحنا.. إحنا اللي بنضيعها" انتهى الاقتباس.


ومايفعله تنظيم "داعش" الإرهابي الدموي من قتل وذبح وتدمير، وما فعله الإرهابيون في فرنسا وقتلهم لإثنى عشر صحفيًا في جريدة "شارلي إبدو"، وما تفعله الجماعات المتطرفة في معظم البلدان العربية يؤكد أن العقل العربي أصابه عطب الأصولية الدينية، وما قاله السيد الرئيس يؤكد أننا في مصر وفي المنطقة العربية نمر بتلك المرحلة المظلمة التي مرت بها أوروبا في عصورها المظلمة في القرون الوسطى.


 ولا يمكن لنا بأي حال من الأحوال أن نخرج من هذا النفق المظلم إلا بالتنوير والإصلاح الديني، فبدون الإصلاح الديني ما خرجت أوربا من ظلاميتها ورجعيتها، وحركة الإصلاح الديني في أوروبا كانت هي البداية المؤسسة للعلمانية، كما يقول الدكتور مراد وهبة في كتابه القيم "مٌلاك الحقيقة المطلقة"، فحركة الإصلاح الديني كانت تعني بالفحص الحر للإنجيل، أي تأويل النص الديني من غير معونة من سلطة دينية، فالدعوى بأن البابا وحده هو الذي يفسر الإنجيل خرافة مثيرة للغضب، وبالتالي يصبح تأويل الإنجيل من حق أي إنسان، ومن ثم فالدوجماطيقية، وهم امتلاك الحقيقة المطلقة،  ممتنعة، ومع امتناعها لا يحق لأحد أن يتهم الآخر بالهرطقة والكفر. 


لذلك ونحن اليوم في بداية القرن الحادي والعشرين لا يُمكن لنا أن نفهم عصر التنوير إلا إذا أخذنا بعين الاعتبار مسألة التعصب الديني والحروب المذهبية التي فرّقت أوروبا طيلة مائتي سنة، ولكن كيف تبددت أمام التنوير الظلمات الحالكة للأصولية؟ إذا ما نظرنا إلى التجربة الأوروبية في التنوير وجدنا أنها كانت صعبة ومريرة، فالمعركة استغرقت حوالي أربعة قرون متتالية، من لوثر وهيجل ونيتشه، مروراً باسبينوزا وجون لوك، وفولتير، وروسو، وكانط وغيرهم كثيرون.


  لقد جيّش كل فلاسفة أوروبا طاقتهم للقضاء على هذا المرض الخطير الذي يصيب أي دين، أقصد مرض الأصولية الدينية، ولذا كانت البداية للقضاء على الأصولية هو في كيفية التعامل مع النص الديني، فلا جدال في أن النص الديني هو محور الارتكاز في كل أفق ديني سواء كان منغلقاً أو مستنيراً، لكن الاتجاه المستنير لإيمانه بقدرة العقل وبتغيير الواقع، يتعامل مع النص الديني بمناهج قادرة على التحديث وبعث الحياة فيه، ليتجدد مع الجديد ويصبح ملائماً لكل العصور ولكل الأزمنة والأمكنة، فيكون الدين رسالة شاملة حقاً.


وفي القرن التاسع عشر ظهر على يد أساتذة اللاهوت علم الهيرمنيوطيقا ( Hermeneutic ) وهذا العلم يقوم على إلغاء التباعد بين القارئ والنص مهما تقادم به الزمن، بل ينبعث النص حيًا في أفق كل متلقٍ له، وفي القراءة الهيرمنيوطيقية ينصهر القارئ مع النص، يكون الماضي والحاضر في علاقة متجددة، في حوار مستمر مع النص يجعله مفتوحاً دائماً لفهم جديد، والهيرمنيوطيقا تكاد تكون تمثيلاً منهجياً للاستنارة الدينية، ولقدرة الدين الذي يرتكز على النص على الانبثاق مجددًا مع كل طلعة شمس، وقدرته على البقاء والاستمرار وأداء المهام الروحية المنوطة به، مهما تعمقت متغيرات حضارية أخرى على رأسها العلم مما يعضد موقف الاستنارة الدينية،


وأعتقد أننا في سبيل الثورة الدينية التي نادى بها الرئيس، نحتاج إلى دستور مدني خالص يخلو من أية مرجعية دينية سواء إسلامية أو مسيحية، وبالطبع هذا لا يعني إلغاء الدين من المجتمع، ولكن يبقى في إطاره الصحيح دون هيمنة على النظام السياسي، ونحتاج لمناخ خال من القوانين التي تُجرم حرية الفكر والإبداع وتُحرم حرية الرأي والتعبير، كما نحتاج لمثقفين حقيقيين لديهم الشجاعة الكافية لغربلة التراث ومواجهة الأصولية الدينية بكل جسارة ودون أدنى هوادة مهما كان الثم.


 ويبقى السؤال: هل نحن قادرون الآن على فعل كل هذا؟ هل نحن مستعدون لدفع ضريبة التنوير؟!!