التوقيت الخميس، 28 مارس 2024
التوقيت 06:57 م , بتوقيت القاهرة

"تحية" لم تنس يوما "بدوية".. وصلات نضال سياسية بشعار الـ"كاريوكا"

امرأة تختصر مصر في قرن من الزمان تقريبا، تاريخ من الفن والنضال السياسي والإبداع والحياة. في كل مرة تندمج فيها مع وصلة من حياتها تكتشف أنك أمام امرأة مصرية ووطنية، أمام تحية كاريوكا، أو بحسب السجلات والدفاتر: أمام بدوية محمد كريم علي السيد.


يبدو أن كاريوكا، المولودة في 22 من فبراير عام 1915 ورثت طبعها الحامي وروحها النضالية من والدها، وخاصة أنها من مواليد فى الإسماعيلية، فوالدها قضى بعض الوقت في المعتقلات، وعمّها قتل على يد الإنجليز، وتربت على كره الاستعمار وحب الثورة من والدها الذي أطلق على ابنته اسم «بدوية» تيمنا باسم الشيخ السيد البدوي، وهو أحد أبطال المقاومة أثناء الحروب الصليبية.


وكوصلاتها الفنية الراقصة كانت وصلاتها السياسية، ممتدة من بداية العشرينات إلى نهاية القرن، ولم تمت بإعلان وفاتها في 20 سبتمبر 1999، بل ما زلنا نذكرها حتى اللحظة.


وصلة ملكية



نفت تحية كاريوكا شائعات علاقتها بالملك فاروق، لكنها لم تنفِ استدعاءها للرقص في قصر عابدين، لكن عندما ذهب الملك إلى "الأوبرج" لم تطق صبرا بعد انتهاء وصلتها الراقصة، وتوجهت إليه، لا لتقديم فروض الطاعة والولاء، وليس للترحيب به كما ينبغي بملك وبما يتوجب على راقصة، ولكنها صدمت الجميع بجرأتها وشجاعتها عندما وبّخت الملك فاروق ضمنيا، قائلة له: «مكانك مش هنا يا جلالة الملك، مكانك في القصر»، فانصرف الملك يجرّ ذيول الخيبة والشعور بالمهانة الشديدة، ولكنها كانت رسالة "راقصة" لكيفية التصرف بما يليق بجلال "ملك مصر".

لم يكن هذا الموقف عفويا أو وليد شعور لحظي من راقصة، ولكنه كان تتويجا لشعور قومي ملك على تحية كاريوكا نفسها حتى أنها انضمت إلى حركة "حدتو" الشيوعية، وساعدت الفدائيين عام 1948، وكانت تستخدم شهرتها كواجهة لتهريب السلاح في سيارتها، وتخزينه في مزرعة الأسرة.

كان اعتزاز تحية كاريوكا بنفسها عظيما، كانت تدرك الحدود بين كونها راقصة تستعرض مهاراتها على المسرح، وكونها مواطنة تعتز بكرامتها ولا تقبل أن يخدش أحد مهما كان هذا الإحساس، ولم يتخلق هذا الإحساس بخبرة السنين، لكنه لازمها من بداية مشوارها، وليس أدل على ذلك من صفعها الأمير حسن، أحد أعضاء الأسرة المالكة، بعد محاولته إمساك يدها بشكل غير لائق، فما كان منها إلا أن سبته ردا على تطاوله غير المقبول.

لم يتوقف الأمر على مصر، بل تعداه إلى خارج حدود المملكة  المصرية، عندما امتنعت عن الرقص أمام الزعيم التركي ومؤسس تركيا الحديثة، كمال أتاتورك، خلال تصادف وجودهما في بيروت، لمجرد أن سمعت أنه أهان السفير المصري، ومُنعت على إثر هذا الموقف الوطني من دخول تركيا.

وصلة ناصرية:

لم تبدِ تحية كاريوكا ترحيبًا بثورة 23 يوليو 1952، كانت متحفظة مع الموجة الجديدة، تترقب قراراتها، ولها مقولة شهيرة: "ذهب فاروق وهايِجي بعده فواريق"، وستتذكر هذه الكلمة طوال 100 ليلة عندما تحبس مع زوجها مصطفى كمال صدقي بتهمة الانخراط في تنظيم يساري معاد للثورة ومحاولة قلب نظام الحكم وصلتها بحركة "حدتو" الشيوعية، غير أن هذا لم يمنعها من ممارسة تمردها ضد التعذيب داخل السجون لتتزعم الدفاع عن المظلومين ومحو أمية السجينات، وبعد خروجها كانت "تتستر" على بعض المثقفين اليساريين المطلوبين أمنيا وترعى وتتكفل بأسرهم.

موقفها من عبد الناصر لم يمنعها من النضال ضد العدوان الثلاثي على مصر، لدرجة أنها حملت السلاح ونقلته للفدائيين، وتبرعت بمجوهراتها لتسليح الجيش، وتكرر الأمر في عام 1967.

لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل نددت بإسرائيل في المحافل الفنية العالمية، وقادت حركة مقاطعة ضدهم في المهرجانات الدولية وضد من يدعمهم ويساندهم بالقول، حيث هاجمت الوفد الإسرائيلي في مهرجان «كان» أثناء مشاركتها بفيلم "شباب امرأة"، عام 1956، ووبخت الممثلة ريتا هيوارث بعد أن تعمدت مدح الوفد الإسرائيلي، وأسمعتها "من المنقي خيار" على طريقة وصلات الردح المصرية، وبصقت في وجه أحد الممثلين الأجانب بعد سبه العرب واصفا إياهم بالهمجيين في مهرجان «كان»، وطلبت من رئيس وفد مصر الأديب يحيي حقي، الانسحاب لكنه رفض، وكلف هذا الموقف تحية عدم الحصول على جائزة النقاد عن دورها في الفيلم، كما أسست جمعية برئاستها لمقاطعة الأفلام والنجوم ذوي الميول الصهيونية.

وصلة ساداتية:

لم تبدأ علاقة تحية كاريوكا بالرئيس محمد أنور السادات مع ترؤسه مصر خلفا لعبد الناصر الذي لم يكن على هواها السياسي، لكن تعود الصلة إلى ما قبل ذلك بكثير، حيث ساعدته على الاختباء مع الفدائيين في الأربعنيات لفترة طويلة، وفي لقاء لها مع السادات عام 1978 وهو رئيس جمهورية، قال لها: «إني كنت أعمل مع شقيقك»، يقصد في العمل الفدائي. هنا وقفت تحية وقالت: «لا يا ريّس، أنت كنت هربان». فضحك السادات!.

وفي أعقاب قرار أنور السادات طرد الخبراء السوفيت في 1972، قدّمت تحيّة بالتعاون مع زوجها فايز حلاوة مسرحية «يحيا الوفد» التي تحولت إلى انتقاد صريح لعبد الناصر وسياساته، فاتهمت بأنها قدمت المسرحية دعاية للسادات.

وصلة مباركية:

رغم تزامن فترة حكم مبارك مع اعتزال تحية كاريوكا ولزومها المنزل والتماسها الهدوء بعيدا عن الصخب، إلا أنها عندما استدعاها نداء الواجب الفني سارعت إلى تلبيته، وتزعمت حركة نقابية فنية واسعة للاحتجاج على تعديل قانون 102 الخاص بالنقابات الفنية التي اعتبره الفنانون جائرا، وقادت مظاهرة الفنانيين التي توجهت إلى القصر الجمهوري، وقادت إضراب نقابات المهن الفنية في 1988، ورغم تدهور صحتها كانت الوحيدة التي أضربت عن الطعام لمدة 10 أيام في نقابة الصحفيين، وبالفعل تم سحب القانون.

الفوازير لـ"نيللي".. و"نيللي" لنا جميعا