التوقيت الجمعة، 26 أبريل 2024
التوقيت 10:11 م , بتوقيت القاهرة

سبينوزا .. قصة رجل أعاد تعريف مفهوم الإله

سبينوزا.. إنه ذلك الشاب اليهودي الذي رسمت له نشأته وتربيته الدينية طريقا كي يصبح حاخاما كبيرا، ولكنه خالف التوقعات والآمال التي عقدت عليه لنبوغه وقراءاته المتعمقة منذ الصغر، وقاد ثورة دينية وفكرية، شكلت قفزة، غير مسبوقة، نحو التحرر من عقائد العصور الوسطى وما بني عليها من أفكار اجتماعية وسياسية، ما جعله أحد أهم الفلاسفة في تاريخ أوروبا.


في مثل هذا اليوم عام 1632، وُلد باروخ سبينوزا، في مدينة أمستردام الهولندية، وبعد 383 عاما على ميلاده، نتذكر مبادئ فلسفته التي غيرت نظرة البشرية للعديد من المفاهيم، مثل الإله والطبيعة والحرية والجبرية، وبنية النظم السياسية، ودفاعه عن حرية التعبير والديمقراطية.


الإله والطبيعة


تكمن ثورية فلسفة سبينوزا في معارضته للاعتقادات السائدة عن مفهوم الإله، والمبنية في أغلبها على الإيمان بالخرافات، وأن الإله هو خالق الكون، الذي يقف خارجه يراقب باهتمام شديد أفعال البشر، يسمع صلواتهم ودعاءهم، ويتدخل بنفسه في عالمهم ليجري المعجزات المخالفة لقوانين الطبيعة، ويكافئ المؤمنين ويعاقب أصحاب النوايا والأعمال السيئة.


ما هو الله؟


لم يعرف سبينوزا نفسه باعتباره ملحدا، بل آمن بأن الإله ليس كيانا منفصلا عن الكون، بل هو الكون، والمنطق والحقيقة التي تتجلى في قوانين الطبيعة. هو كل شيء وفي كل شيء، فكل شيء هو جزء منه، ولا يمكن لشيء أن يوجد خارج الإله.


الإله إذا ليس مصمم الكون أو مهندسه، وليس ملكا أو قائدا عسكريا يجيش المؤمنين ليرفعوا السيوف باسمه في الحروب المقدسة، وليس خالق الوجود، بل هو الوجود نفسه، وهو روح العالم وجوهره.


الدعاء


اعتبر سبينوزا أن فكرة الصلاة أو الدعاء بطلب الإنسان من الإله التدخل لتغيير مسار العالم من أجل مصلحته الشخصية، علامة على جهل البشر، الذين ينبغي عليهم فهم طبيعة الكون، وتقبلها بدلا من إرسال رسائل الإعتراض إلى السماء، بسبب الاعتقاد الخاطئ لدى الإنسان بأنه محور العالم.


الثورة على الدين


تخالف تلك الأفكار بالطبع أغلب الثوابت الدينية، بإنكارها لمفاهيم الحساب، والحياة بعد الموت، واعتبار الإنسان خليفة الله في الأرض، أو المخلوق على صورته، أو أن اليهود هم شعب الله المختار، وترجع مخالفة تلك الأفكار لإيمان سبينوزا بأن الكتب المقدسة، التي صورت الإله باعتباره "شخص" ذو صفات إنسانية، هي نصوص كتبها البشر، ما يجعلها تخضع للمنطق والتفكير النقدي.


معرفة الله


قدّم سبينوزا بديلا عن معرفة الله بالاعتماد على النصوص الدينية، وهو دراسة الكون والوصول للحقائق العلمية والمنطقية، التي يمكنها أن تصل بنا إلى فهم ما يريده الإله. ويلزم لذلك أن تخرج نظرتنا للعالم من النطاق الفردي الشخصي، إلى النظرة الكلية المجردة، التي تساعد الإنسان على أن يرى، بموضوعية ومنطقية، حقيقة الأشياء.


ورغم أن البعض قد يرى قسوة على الذات في فكرة النظر لحقيقة الأشياء مع تجاهل تأثيرها المباشر على الفرد، فإن فلسفة سبينوزا بالأساس تقدم لنا طريقا للحياة الخالية من الشعور بالذنب والندم والعار، أو الحزن والأسى وضيق الأفق.


ملعون ملعون.. يا ولدي!



ليس غريبا أن أفكار سبينوزا التقدمية التي سبقت عصره بمئات السنين، جلبت عليه ويل اللعنات والتكفير، فقد تم طرده من المجتمع اليهودي وصدر بحقه أمر حرمان كنسي، يعزله ويطالبه بالتوبة عن أفكاره، كما منعت كتبه وتمت مصادرة أمواله ومقاطعته من أقرب الأشخاص إليه، وخضع للمسائلات حول حقيقة أفكاره الغريبة، وأغراضه الخفية من تلك الهرطقات التي يضع من خلالها الثوابت الراسخة في العقائد الدينية، محل تفكير واختبار.


اضطر سبينوزا للهروب من أمستردام، واللجوء إلى لاهاي، حيث عاش في هدوء وعمل في صناعة العدسات، حتى موته عام 1677، قبل تجاوز الرابعة والأربعين من عمره.


عالمية الفلسفة


قد يعتبر البعض أفكار سبينوزا، الذي تأثر كثيرا بأفكار ومبادئ رينيه ديكارت، بعيدة تماما عن الثقافة العربية والإسلامية، بيد أن ذلك "تاريخيا" ليس صحيحا، فجذور سبينوزا ترجع لليهود الذين هاجروا إلى هولندا بعد طردهم من الأندلس مع إصدار "مرسوم الحمراء" عام 1492.


وقد تأثر سبينوزا خلال نشأته بأعمال أشهر الفلاسفة اليهود وعلى رأسهم موسى بن ميمون القرطبي، والذين سلكت أفكارهم طريقا مغايرا عن الرؤي الدينية التقليدية، كما تعتبر استلهاما لأفكار الفلاسفة العرب وعلى رأسهم "ابن رشد" الذي يرجع إليه الفضل في إعادة إحياء تراث أعظم فلاسفة اليونان.



كما أن العديد من أعلام الصوفية مثل "عبد الله بن عربي" تتفق أفكارهم إلى حد كبير مع رؤية سبينوزا حول وحدة الوجود.

 

رغم أن أعظم أعماله على الإطلاق كتاب "الأخلاق"، لم ينشر سوى بعد وفاته، فقد ظلت أفكار سبينوزا طي النسيان لسنوات طويلة، حتى أعيد إحيائها على يد العديد من الفلاسفة المعاصرين، من أبرزهم "هيجل"، ولا تزال أفكار سبينوزا يتردد صداها ويستمر تأثيرها حتى اليوم، وليس أدل على ذلك من تصريح أينشتاين حين سؤل عن عقيدته، بالقول، بأنه يؤمن بإله سبينوزا الذي يكشف عن نفسه في قوانين الكون ونظامه، وليس الإله الذي يتدخل في تفاصيل الحياة وينشغل بأعمال البشر وتحديد مصيرهم.