التوقيت الجمعة، 16 مايو 2025
التوقيت 02:04 م , بتوقيت القاهرة

"هيراقليطس" الفيلسوف الباكي الذي بحث عن السعادة (2-2)

في الحلقة الأولى، سلطنا بعضا من الضوء عن أحد العقول اليونانية التي خرجت من مستعمرات آسيا الصغرى، الفيلسوف اليوناني هيراقليطس، الذي كان أول من رمى حجر في بحيرة التصورات الراكدة  للعالم، ومن يومها وبحيرة تصوراتنا عن العالم لم تعد كما كانت، الرجل الذي حاول البحث عن طريق السعادة.

من الصراع إلى التناغم

يرى هيراقليطس إن الصراع بين الموجودات لا ينتهي إلى فناء الموجودات، بل يفضي إلى التناغم والائتلاف بينها، ويوضح ذلك بقوله "يجهل الناس كيف يكون الشيء مختلفا ومتفقا مع نفسه، فالائتلاف يقوم على الشد والجذب بين الأضداد، كالحال في القوس والقيثارة".

وكان قوام العالم الحقيقي في نظر هيراقليطس هو التآلف المتوازن بين الأضداد، فمن وراء صراع الأضداد، وفقا لمقادير محسوبة، يكمن انسجام خفي أو تناغم هو جوهر العالم.

العالم بين الوحدة والكثرة

لم ينكر هيراقليطس الوحدة في العالم، ولكن وحدة العالم في نظره صيغت من اتحاد الأضداد، لذا فتصوير هيراقليطس على أنه فيلسوف الكثرة دون إشارة إلى أنه فيلسوف الوحدة أيضا هو تصوير خاطئ، إذ كيف يمكن أن يذكر عنه القول بصراع الأضداد دون أن يشار إلى أن ذلك مظهر التوازن والتوافق الذى يكون جوهر العالم، فالوحدة عنده في الأضداد نفسها، فهي كثيرة وواحدة في آن واحد.

وربما دفع ذلك الكثيرون إلى القول بأن فلسفة هيراقليطس ليست متسقة مع بعضها بعضا حيث إن قوله بالوحدة يتعارض مع قوله بالتغير الدائم. لكن هذا الاعتراض مردود عليه فالوحدة أو الاتساق الذي ينتج عن صراع الأضداد بنسب معينه لا يخلو من توتر هو سر استمرار التغير، فالتناغم الذي يعقب التضاد غير ثابت، وبالتالي فهو يؤدي إلى تضاد يعقبه اتساق وهكذا دواليك.

النار أصل الأشياء

توصل هيراقليطس إلى أن النار هي أصل الأشياء جميعها، ولكنه لم يقل أنها مجرد مادة طبيعية محسوسة، كما أنها ليست مجرد تصور ميتافيزيقي بل الاثنان معا، فالنار في رأيه تخضع للتغير ولكنها توجهه في نفس الوقت.

وجعل هيراقليطس النار المبدأ الأول للموجودات لأنه رأى أن الأشياء كثيرة التغير أو دائمة السيلان وينطبق ذلك بوضوح على النار، أما المبادئ الأخرى فلا يتمثل فيها هذا الدوام في السيلان.

ونار هيراقليطس نار غير مادية لكنها تصير نارا مادية، فهي نار إلهية، وعاقلة، وأزلية وأبدية، ولكنها يعتريها ضعف فتصير نارا محسوسة.

اللوجوس قانون الوجود

يشير هيراقليطس إلى أن الوجود يحكمه قانون عام لا يمكن أن ندركه بالحواس ويمكن إدراكه فقط بالعقل، ويسميه بــ "اللوجوس"، ويراه سنة كونية عقلية حتمية تحكم جميع الأشياء، فاللوجوس يخضع له هذا الوجود المتدفق باستمرار ويدلل على ذلك بقوله "ومع أن اللوجوس... أزلي، إلا أن الناس يعجزون عن فهمه، كأنهم يسمعونه لأول مرة. ذلك أن الأشياء ولو أنها تجري مطابقة له، إلا أن الناس يبدون كأنه لا تجربة لهم بالأشياء، عندما يضفون الأسماء والأفعال، كما أفعل ذلك في تفسير الأشياء حسب طبيعتها ونوعها. وهناك من الناس من لا يشعرون بما يفعلون وهم أيقاظ، كما لا يشعرون بما يفعلون وهم نيام".

ووفقا لذلك فجعل هيراقليطس الحواس مصدرا لمعرفة الوجود المحسوس، والمعرفة التي تأتينا من هذا الطريق عنده لا تمثل حقيقة الأشياء، فهي معرفة قاصرة، ومحدودة، ونسبية. وجعل العقل أيضا مصدرا آخرا للمعرفة ولكنه وحده الذي يستطيع أن يصل إلى معرفة حقيقة الأشياء، إنه وحده الذي يمكنه أن يدرك التضاد القائم بين الأشياء، ووحده الذي يستطيع أن يدرك القانون العام (اللوجوس) الذي يحكم هذا الوجود.

طريق السعادة

رأى هيراقليطس أن سعادة الإنسان تتحقق بمعرفة العقل حقيقة الوجود ومعرفة العقل القانون المسيطر على الوجود "اللوجوس"، وفي إدراكه قانون الصيرورة والتضاد القائم بين الموجودات وما يوجد خلف هذه الأضداد من ائتلاف، ووقتها يشعر الإنسان بالرضا والسعادة، وهو ما لايمكن أن تحققه اللذات الحسية ويؤكد على ذلك بقوله "إذا كانت السعادة في اللذات الحسية، فيجب أن نسمي الثيران سعداء".