التوقيت الخميس، 01 مايو 2025
التوقيت 03:26 م , بتوقيت القاهرة

"طاليس".. من السماء تبدأ الفلسفة

انتقدوه لفقره، معتبرينه دليلاً على أن الفلسفة لا خير فيها، فاستعان بمهارته الفلكية، وتنبأ بأن المناخ سيجعل محصول الزيتون وفيرا في بلده "ملطيا" العام المقبل، فاستأجر معاصر الزيتون كلها من فصل الشتاء، ولما جاء أوان المحصول وزاد الطلب على المعاصر، أجرها بما شاء من أجر، وكسب مبلغا كبيرا من المال، ليثبت للعالم أن الفلاسفة في استطاعتهم أن يصبحوا أغنياء في غير عناء إذا أرادوا، لولا أن طموحهم يتجه اتجاها آخر.


إنه "طاليس" أحد حكماء اليونان السبعة، الذي وصفه نيتشه بـ"الفيلسوف الأول"، ولقبه مواطنوه في حياته بـ"الحكيم". فضل الفلسفة والعلم على مكاسب الاشتغال بالأعمال التجارية والمالية، فلم يشتغل بها إلا بالقدر الذي مكنه من الحصول على طيبات الحياة العادية.



ميلاد الفلسفة


يُروى عن "طاليس" أنه بينما كان  يسير ذات يوم، وهو ينظر إلى السّماء يحقق فيها، إذ به يقع في حفرة لم تبصرها عيناه؛ وكانت تسير بالقرب منه جارية عجوز، فلمّا رأت ما حدث لــ"طاليس" أغرقت في الضحك، ثم صرخت فيه قائلة: "أنتظر في السماء تبحث عن سرها؟، وأنت عجزت عن أن تعرف مابين قدميك فتتجنّبه، ولا يحيق بك ما قد حاق"!


ربما تروى هذه القصة  ظهور الفلسفة  قبل "سقراط"، فقد انشغلت الفلسفة، منذ فجرها الأول على يد "طاليس"، بالطبيعة، فحاولت كشف غموضها، وتعليل نشأتها مبتعدة عن التفسيرات الدينية، مستخدمة العقل والتفكير الحر والنظر والتجريب، لذلك وُصف "طاليس" بالفيلسوف الأول وأبوالعلوم، ولكن إهمال الفلسفة منذ نشأتها الأولى لدراسة الإنسان، ربما كان سبب في تعثر خطواتها وتأخر نتائجها القيمة، ووصف القائمين بها بأنهم يعيشون في أبراج عاجية لا علاقة لهم بسكان الأرض.



الفيلسوف الشامل


تبدأ الفلسفة بـ"طاليس"، الذي ولد لأبوين فينيقيين، كما يذكر هيرودوت، وعاش في الفترة ما بين (624 – 546) ق.م  بملطيا: إحدى المستعمرات اليونانية بآسيا الصغرى.


تلقى أغلب تعليمه في مصر وبلاد ما وراء النهرين، فجمع بذلك بين ثقافة الشرق الدينية والعقلية اليونانية العلمية، فأخذ من الشرق العلوم الفلكية والرياضية وأدخلها اليونان، بعد أن شذبها من الشعوذات والأساطير.


كان "طاليس " متعدد المواهب والاهتمامات:


كان رياضيا، وقف على طرائق عديدة  في القياس لم تعرف من قبل، واستطاع قياس ارتفاع الهرم من ظله.



كان فلكيا بارزا، استطاع أن يتنبأ بكسوف الشمس سنة 585 قبل الميلاد، ولم تقف فطنته في مسائل الفلك على التنبؤ أو قراءة صفحة السماء، لكنه تجاوز ذلك إلى استثمار معرفته الفلكية بما ينفع الناس، فنظم لهم سجلا بالنجوم، ليستخدم في الملاحة، فضلا عن مهارته في الهندسة، حيث نظم تحويل مجرى أحد الأنهار.


وفى السياسة، حاول إقناع شعوب اليونان بالوحدة لمواجهة بلاد الفرس.


لم تقتصر محاولات "طاليس" الفلسفية على رصده لبعض الظواهر الطبيعية من حوله، بل حاول تفسير أصل الكون، فكان أول من توصل لنظرية في نشأة الكون، تبتعد كثيرا عن التفسيرات الميثيولوجية – الأسطورية -  والدينية التى كانت سائده في زمانه.



الماء أصل الأشياء


بحث "طاليس" عن تعليل لنشأة الكون، دون اللجوء إلى التفسيرات، التي تجعل الكون مليء بالآلهة، التي تتصارع باستمرار -وفقا للديانات اليونانية القديمة- فافترض أن أصل الأشياء  لابد أن يكون مادة أولية مرنة غير محددة الصفات، تتسع لأن تكوّن كل شيء.


ووجد أن هذا الأصل لا يمكن أن يكون غير الماء، إذ يجمع أوضاع المادة كلها؛ فهو بخار في درجات الحرارة العالية أو حتى العادية، وهو صلب في درجات الحرارة المنخفضة، حيث يتحول إلى ثلج جامد جمود المادة الصلبة، بل إن الأرض التي تطفو على سطحه إنما كان الماء هو الأصل فيها فعناصر المادة الأولية الأربعة: الماء، التراب، الهواء، النار، كلها يتحول إليها الماء، ثم أن الماء لا شكل لها، وإنما يتشكل من خلال تحوله إلى أوضاعه المختلفة، وفقا لطاليس.


وكانت طاليس بذلك صاحب أول قول بوحدة المادة في التاريخ المدون كله، وليس أهم ما في آرائه أن الماء أصل كل شيء، بل أهمها إرجاعه الأشياء جميعها إلى أصل واحد.


الفيلسوف المُوحد


نادى "طاليس" بإله واحد، على  عكس ما كان يعتقده أغلبية أهل اليونان من تعدد الآلهة وعدم وحدتها، ورأى أن هذا الإله مختلف عن الإنسان، وأن صفات الله ليست تلك الصفات التي ينسبها الشعراء إلى الآلهة، لأنها إنسانية خالصة، وعندما سُئل "طاليس" ذات يوم ما هو الله؟ أجاب: "ما ليس له بداية ولا نهاية".