التوقيت الأحد، 20 يوليو 2025
التوقيت 12:09 م , بتوقيت القاهرة

الطربوش.. رحلة تطور "حجاب" الرجل

(1)

عام 1996، نشرت أخبار اليوم تقريرًا عن نائبين في مجلس الشعب، العمدة محمد أحمد عامر، نائب مراغة، وأبو الفتوح حسب النبي نائب قنا، طالبا بعودة الطربوش للمصريين، مؤكدين أن الطربوش رمزًا للرجولة وعودة للزمن الجميل.

(2)

أصيب الجمهور المصري، عام 1998، بتخمة مسلسلات الطرابيش في شهر رمضان، وهاجم النقاد أسامة أنور عكاشة، ويسري الجندي، وغيرهم من كتاب الدراما الذي ظهروا في ذلك العام كأنهم يدعون لعودة لباس الرأس الأحمر العتيق.

(3)

في 2005، صار للطربوش دورًا رئيسيًا في النكتة السياسية – آنذاك- عندما قرر صاحب الطربوش الوحيد في مصر، زعيم حزب الأمة الحاج أحمد الصباحي، خوض الانتخابات الرئاسية أمام الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك.

ما سبق يمكن اعتباره مواقف فردية، اتخذها أصحابها بجدية قابلها السخرية والانتقاد، واتهام بالرجعية والأصولية، لكن الواقع أن هذا الطربوش كان سببًا في صراعات فكرية، ومناقشات ثقافية، أفردت لها صفحات الجرائد والمجلات في منتصف عشرينيات القرن الماضي، ووصل الأمر إلى تكفير الممتنعون عن ارتداءه.
الطربوش في صحافة التسعينات
كانت معركة الطرابيش أقرب إلى حاضرنا لمسألة حجاب المرأة، قضية تحتاج إلى فتاوى المشايخ، وفقًا لما ذكره الباحث أحمد زكي عثمان، في العدد 90 / 91 من مجلة عالم الكتاب، الصادر من الهيئة المصرية العامة للكتاب، أغسطس 2015، قال "إن العرب انشغلوا بقضية فقهية وفكرية حول مدى إلزامية تغطية رؤوس الرجال، وانتصرت العمامة الأزهرية فقهيًا على برنيطة الخواجة، لكن أمام الطربوش (رمز الحداثة) فقدت العمامة دورها، في النهاية انتصرت رؤوس الرجال الحاسرة، وبعد أن تخلى الأتراك عن الطرابيش بعد ذلك على يد أتاتورك، تحولت إلى رمز رجعي غير مناسب للمصريين".

كيف تلبس "طربوشًا"؟
قبل ثورة يوليو 1952، لم يكن الرجال يسيرون بدون غطاء الرأس، كان كافيًا معرفة هوية الشخص المار أمامك من قمة رأسه، إذا كان يرتدي العمامة فهو من الأزهريين، بينما من يرتدي الطرابيش طلبة الجامعة، والأفندية، والبكوات، والباشوات، أما من يرتدي البرنيطة فهم المتأثرون بأوروبا، الداعون إلى الحداثة ونبذ الأفكار القديمة.
 تطور الطربوش مع السلطان حسين كامل
وكانت طريقة لبس الطربوش أيضًا تخبرنا بسلوك صاحبه، مثلما حكت الكاتبة الصحفية سناء البيسي، يناير 2010، عن والدها أنه كان يشرح لها دلالات وضع زر الطربوش، إذا انسدل إلى الأمام ما يؤكد الالتزام وتقديم فروض الطاعة والولاء لمن يمثل بين يديه صاحب الطربوش، وإذا وضع الزر على الجنب ففيه ما يعكس مظهر المهابة والشموخ والجلال، أما إذا ما طوح الطربوش بزره إلى الخلف، فذلك مظهر للاستهتار وعدم وضع من تتحدث إليه في عين الاعتبار، وفي حال ما إذا أوتي بالطربوش كله مع زره إلى الأمام ليغطي الحاجبين ويكشف القفا فصاحبه مبسوط وآخر تمام".

برانيط وعمامات وبينهما طربوش
في تقييمه لأزمة الطرابيش، نشر المؤرخ جمال بدوي، في مجلة المصور، دراسة عنونت بـ"معركة الطربوش والعمة والبرنيطة"، في 28 يوليه 2000، أشار من خلالها إلى أن الصراع على ما يرتديه المصريون فوق رؤوسهم، نشأ عام 1926، حينما دعت كلية دار العلوم إلى التخلي عن اللبس الأزهري، وخلع الجبة والقفطان والعمامة، وارتداء البدلة والطربوش كغطاء للرأس، وأصدرت وزارة المعارف قرارًا بإلزام الطلبة والمدرسين الأزهريين، بارتداء العمامة؛ لأن هذا زيهم من قديم الأزل، ولا يجوز تغييره، وقد لاقى هذا الإجبار رفضًا من الطلبة الذي استندوا إلى فتاوي فقهية تثبت أن الزي ليس من جوهر الدين، ووجدوا دعمًا من المشايخ ورجال الصحافة مثل فكري أباظة.

كانت الطرابيش في معركة أخرى مع البرنيطة الأوربية، بدأت في 2 مارس 1926، عندما التقى وفد من الطلبة المصريين، بوفد من الطلبة الأتراك، في فندق شبرد، وكانت نتيجة هذا اللقاء بين المطربشين المصريين، وبرانيط الأتراك، دعوة الطالب حسن يس، إلى خلع الطرابيش، بينما زعيم الطلبة الوفدي رأى في الأمر تمردًا على الدين والتقاليد.

وكانت صحيفة الأهرام هي الساحة التي تصارع فيها الفريقين، بيانات ومقالات تثبت ضرورة التخلي عن الطربشة، وأراء أخرى تطلب أخذ من تركيا ما يتفق مع مصر دون الإخلال بالقواعد الثابتة، وكانت المفاجأة أن أحد المؤيدين للبرنطية، أشار إلى أن خلع الطربوش فكرة مصرية قبل أن تنفذها تركيا، حيث أرسل الصحفي اللبناني المقيم في مصر، سليم سركيس، عام 1917، إلى المفكرين ورجالات البلد، يسألهم رأيهم في استبدال الطربوش بالقبعة.

في ذات الوقت، كان أول رجل يخلع الطربوش في مصر، دكتور محمود عزمي، يقف في مدخل مجلة المصور، مرتديًا البرنيطة، حاملًا بين يديه تقريرًا من جمعية الأطباء في القاهرة أقروا فيه أن "الطربوش ليس لباسًا صحيًا، بسبب نوع قماشه وشكله ولونه وخلوه من المسام، وثقله يدفئ الرأس أكثر من اللازم في الصيف، ويسبب فيه عرقاً غزيراً ومضايقة وصداعاً، من الوجهة الصحية ضار بالعينين والرأس، ورأت جمعية الأطباء أن أفضل لباس للرأس يوافق جو مصر في زمن الصيف هو "القلنسوة" البيضاء المصنوعة من الفلين، والتي بها ثقوب كافية لدخول الهواء".
محمود عزمي
تبنت مجلة الهلال نشر رأي دكتور محمود عزمي، الذي قال: "اعتزمت أن انفذ ما انا مقتنع به من رأي في صدد القبعة، لكن الاخطاء الوراثية المتراكمة كان لها في عزيمتي بعض الاثر، فجعلتني أجد من حسن الفطن، ألا افاجئ اخواني واصدقائي بما سأضع على رأسي في مصر من عمارة جديدة. وان أنذرهم قبل الموعد بأيام حتى لا ينقضوا علي بالسؤال والاستفسار"، في المقابل نشرت المجلة مقالًا للكاتب مصطفى صادق الرافعي بعنوان "لماذا استمسك بالطربوش؟"، قال فيه: "أنا استمسك بالطربوش لأني أريد الدقة في التعبير الذي تعبر به نفسي حين تعلن عن نسبتي وقوميتي، ثم انني مستيقن أن الافكار الشرقية أو الإسلامية تحت القبعة هي غيرها تحت الطربوش".

وفي عام 1927، عاد الفنان حسين رياض من أوربا، وأسس جمعية تنادي بخلع الطربوش ولبس البرنيطة، وانضم لهذه الجمعية الكثير من الأدباء والفنانين مثل توفيق الحكيم، الذي قرر لبس البيريه، فقام بعض الأزهريين بتكفير رياض في المجلات الدينية، ونشروا بيانات يصفون فيها بعض أعضاء الجمعية بالمرتدين والزنادقة.

طربوش حمزة
أخذت أزمة ارتداء الطربوش بعدًا جديدًا، كاد أن يفسد العلاقات المصرية- التركية، في اليوم الوطني للجمهورية التركية، الموافق 29 أكتوبر عام 1932، قرر وزير مصر المفوض بالعاصمة التركية عبدالملك حمزة، الذهاب إلى حفل أتاتورك، في فندق "انقرة بالاس" الذي كان أكبر فنادق العاصمة التركية في ذلك الوقت، مرتديًا الطربوش، وأبدى أتاتورك انزعاجه من الطربوش الذي كان يراه عودة للدولة العثمانية والرجعية، واعتبر تصرف الدبلوماسي المصري إهانة لبلاده،  فاقترب أتاتورك منه وقال: "قل لمليكك أن مصطفى كمال أمرك أن لا تلبس طربوشك هذه الليلة"، ثم التفت إلى أحد الخدم، وقال له: "إن سفير مصر يود أن يخلع طربوشه فخذوه منه".

عندما رأى أتاتورك الطربوش، تذكر السلطان العثماني محمود الثاني، الذي قام بإصلاحات سياسية واجتماعية، واعتمد الطربوش للعسكريين عام 1826، ثم صار لزامًا على موظفي الدولة بعد ذلك بثلاث سنوات، وكان لهذا القرار تأثيرًا على الدول التابعة للسلطنة، وقتئذ قرر والي مصر محمد علي، الاستغناء عن العمامة وارتداء الطربوش، وصنع أول طربوش مصري عام 1825، وصار وقتها رمزًا للحداثة يفضل بين الأفندية والأزهري، ذلك قبل أن دخول البرنيطة الصراع، ويتحول الطربوش إلى "دقة قديمة" وأصبح يعبر عن الرجعية.

مثلما حذف أتاتورك، الطربوش من ذاكرة الشعب التركي بعد القضاء على الخلافة العثمانية، قرر الضباط الأحرار في مصر، بعد ثورة 23 يوليو 1952، بإنهاء الصراع تجاه غطاء الرأس، بإلغاء الطربوش المرتبط عند المصريين برجال العهد البائد من الباشوات والبكوات، ولاقى القرار تأييدًا من الصحف المصرية وكبار الكتاب، لعدم التمييز بين فرد وأخر في مجتمع ثوري ينشد العدالة الاجتماعية، وبالرغم من عدم جبر أحد على خلعه، إلا أن من تمسكوا به صاروا رمزًا للماضي، وأصبح لبس الطربوش دعابة، والكوميديا تصل إلى أعلى درجاتها في مسارح فؤاد المهندس، ومحمد عوض، وفرقة الريحاني، عندما يرتدي أحدهم طربوشًا.

في برنامج النادي الدولي، استضاف الفنان سمير صبري، والد الفنان فؤاد المهندس، شيخ مجمع اللغة العربية زكي المهندس، الذي احتفظ بالطربوش على رأسه، رغم مرور سنوات كثيرة على خلعه، وفي نهاية الحلقة -بدءًا من 8:30- تحدث عن سر ارتدائه له قائلًا بطريقة كوميدية: "شعري خفيف، وكل شوية هواء أصاب بالزكام والكحة، وبدون طربوش أكون واحدًا من 36 مليون، ولكن بالطربوش أكون واحدًا من 20 أو 30 مصري".