صور| في خان الخليلي.. "رَبع السلسلة" فندق ريفي ومول للورش


كتبت- هبة مدين:
وسط أصوات الباعة المنتشرين بشارع خان الخليلي، ومحلات التحف والذهب والفضة المتلألئة أضواؤها في كل ركن/سألنا أنفسنا: ماذا يختفي خلف تلك المحلات التي تبدو آية في الجمال والروعة، في الشكل وفي البضائع أيضا؟ فدائما ما يتوقف السائحون والراغبون في التسوق عند المحلات القريبة من الشارع، محلات الدور الأرضي كما يطلق عليها، للاستمتاع بشراء أجمل التحف والمنتجات.
تابعنا السير داخل خان الخليلي، باحثين عن مدخل تلك الأدوار التي تعتلي محلات الخان.
لم يُنصفنا السير، ضللنا الطريق، بعدما نجحت عربات الباعة المتراصة بموازاة محلات الخان في إخفاء أي مسلك للصعود إلى أعلى، فلم يعد أمامنا إلا طريق واحد هو شارع خان الخليلي، حتى استوقنا باب ضخم من الخشب العتيق، تتوسطه يد حديدية، كانت تستخدم فيما مدى كأداة للطرق على الباب.
لم يحجب هذا الباب شيئا ورائه، فقط تم إسناده على الحائط، ليظهر على يمينه مدخل لسلم علوي طويل جدا يختفي خلف باب دائري، يأخذ شكل القُبة، وما عليك سوى أن تحني رأسك بعض الشيء استعدادا للدخول، قبل أن يستقبلك معرض مفتوح للإكسسورات اليدوية على يسار السلم.
24 درجة سلم، تقف مرحبة بمن يريد الدخول، سترهقك قليلا وأنت تصعد إلى بناية يعود تاريخها إلى العصر الفاطمي، ولكن حال صعودك ربما ستصيبك صدمة حضارية، للفارق الكبير بين البهجة والجمال المشعين في كل ركن من خان الخليلي، وبين مقابر أرادت أن تتبع موضة التغيير فاتخذت شكل غرف مجاورة لبعضها البعض، معظمها مغلق، بينما فُتحت أبواب أخرى كمحلات لأصحاب المهن الصغيرة والحرف اليدوية، ومن لافتة كتب عليها "ورشة مفروشات شرقية"، بخط عربي أصيل، بدأنا رحلتنا داخل ما يطلق عليه "ربع السلسلة".
يقول عم مصطفى الصدفجي، أقدم سكان الربع، لـ"دوت مصر"، إن سكة البادستان، المعروفة بـ"ربع السلسلة"، هو الاسم المتداول بين سكان الربع وأصحاب الورش، والعاملين بخان الخليلي والحسين، منذ سنوات طويلة، منذ كان الوافدون يميزونه بسلسلة معلقة فوق الباب الخشبي العتيق.
وفي عهد قديم، لم يكن خان الخليلي إلا شارع طويل، يضم عدة محلات متجاورة، وكان المبنى العلوى للخان، والذي حمل اسم أول مستأجر له من الأوقاف، وهو رجل يدعى "الخليل"، عبارة عن سطح فارغ شديد الاتساع، تم تخصيصه للقطن الذي يتم جمعه من الفلاحين، ولمّا كانوا يقضون ليالٍ عديدة في نقل القطن وتحصيل أمواله، ثم العودة إلى قُراهم، بُنيت غرف صغيرة الحجم لتأجيرها للوافدين من القرى، والراغبين في السكن، وتم الاتفاق مع "الخليل" ليصبح مسئوول عن تحصيل أجرة تلك الغرف لصالح الأوقاف.
ومع الوقت، أصبح ربع السلسلة عبارة عن 4 أدوار، تضم نحو 480 غرفة، بنيت بشكل عشوائي في ممرات تشبه بعضها البعض، وتحمل جدرانها لمسات الزمن، وفي هذا الفندق الريفي البدائي، كان الفلاحون يجتمعون لتناول الطعام، والصلاة، وكان حمام واحد يكفيهم.
وعلى مقربة من الحمامين، الذي خصص أحدهما للرجال والآخر للسيدات، يقف مصلى صغير لا يسع إلا 5 أفراد فحسب.
ولسكان المنطقة الأصليين بربع السلسلة، مثل عم مصطفى، ذكريات جميلة للمكان قبل أن يزدحم بالغرف وأصحاب الورش، فيقول عم مصطفى إنه كان يستطع رؤية مئذنة مسجد سيدنا الحسين من غرفته، وهي تتلألأ بالأنوار، ويسمع بوضوح صوت المقرئ العذب، ويبلغه النسيم الجميل الذي يتخلل المسجد، وخان الخليلي، ويتذكر عم مصطفى بحنين المائدة التي يشترك فيها جميع سكان الربع، لعمل مختلف أنواع الطعام، ويجتمعون حولها مع وأطفالهم.
واصطحبنا عم مصطفى في رحلة ذكرياته، مسترجعا فترة التحول الكبيرة التي عاشها ربع السلسلة، عندما نزح عمال الحرف المختلفة بحثا عن العمل والمال، لينتقل إلى الربع سكان جدد قلبوا الغرفة الواحدة إلى ورشة، تحتل ركنها أريكة صغيرة للنوم، ويذهبون لزيارة أسرهم مرة كل أسبوعين.
ووسط هذه التحولات، اضطر أكثر سكان الربع الأصليين، الذين قضوا فيه سنوات من حياتهم، للرحيل من المكان، في حالة أشبه بالهجرة الجماعية، هاربين من "دوشة الصنايعية"، وسلوكياتهم التي تتسم أحيانا بالانحراف، على حد وصف عم مصطفى.
وبين مهن الصدف، والجلد، والعظم، وتركيب فصوص الألماظ، والنحاس، والفضة، ينشغل ربع السلسلة وعماله طوال اليوم في عملهم الدقيق.
ومن ربع السلسلة، إلى ربع أبو حلقة، وربع المكواة، ينشغل خان الخليلي كله في صناعة تحف بالغة الروعة، تحمل بصمة مصرية أصيلة، لا مثيل لها في العالم كله.