ريفيو لفيلم قديم| الكيت كات.. حينما تحدث الشيخ حسني


1991، مرت خمس سنوات من البحث عن منتج، من يتحمس للعمل، يتخوف من أجر البطل محمود عبد العزيز، من يوافق على أجر البطل يتخوف من تكلفة بناء حارة كاملة لتصوير الفيلم، خس سنوات بحث فيها داوود عبد السيد عن منتج حتى تحمس المنتج "حسين القلا" للفيلم وبالفعل تم بناء الحارة، ليخرج "الكيت كات" إلى النور في يوم 9 سبتمبر عام 1991، ليخرج "الشيخ حسني" عن صمته ويتحدث.
البداية مع "مالك الحزين" تلك الرواية التي كتبها إبراهيم اصلان ووقعت في يد داوود عبد السيد والذي قال عنها في كتاب محاورات داوود عبد السيد للناقد أحمد شوقي " ما ان انتهيت من أخر صفحه حتى عدت لقراءتها مرة أخرى" يفكك داوود الرواية لتصبح "عرايا في الزحام" وهو الاسم الذي كان سيطلق على الفيلم قبل ان ترفضه الرقابة.
داوود يتحرك داخل الرواية بحرية شديدة، يحول شخصية ثانوية إلى بطل، ويحول بطل الرواية إلى شخصية ثانوية، ويعيد خلق علاقات وتفاعلات إنسانية ليخرج فيلمه يحمل من الرواية بعض الملامح ولكنه ابن شرعي لروح وفكر وعقلية داوود السينمائية.
الباب الأول.. العجز
من الوهلة الأولى تدرك أن تدخل عالم غريب عليك حتى وإن كنت أحد ابطاله الحقيقين، العامل الذي يجلس بطله حول الجوزة ليتحدث عن حلم ربما او خيال، يحكي فيه قصة تشبه تلك الأساطير الشعبية حول كيف فقد بصره، ليلقي في نصف الحكاية تلك الجملة الإفيه " راح النور يا حمار مش عميت خلي عند أهلك نظر" وبعيدا عن خفة الجملة ورشاقتها وتوقيتها المناسب للغاية، تلك الجملة هي أول خيط لشخصية الشيخ حسني وربما هي الباب الأول لعالم كيت كات داوود عبد السيد.
الجملة الباب، تشير بوضوح لرفض متصل من البطل للاعتراف بعجزه، عجزه هو عاهته، ولكنه يرفض الاعتراف بها، يتعامل طيلة الوقت على كونه أحد المبصرين يتناسى حقيقة وحيدة، ربما كان يسمع ويسير ويطير ويحلق ولكن عينيه هي روحه وخياله، لا تلك المثبتة في وجهه، عينيه موجهه دائما للأعلى، وأحيانا للداخل، حسني عاجز، ورفضه للعجز جعله شخصية قوية محبه للحياة، وربما أكبر دليل على عدم اعتراف حسني بعجزه، هو مشاهده مع الشيخ عبيد، هذا الراجل المعترف بعجزه، المتناقض للشيخ حسني و المحب للحياة هو الأخر ولكنه يدرك أنه فعلا ضرير.
في المقابل حينما نتعرض لشخصية يوسف نجده هو الأخر عاجز، عاجز عن التأقلم مع ما هو حوله، عاجز عن معرفة نفسه وما يريد، عاجز عن إيجاد سبيل له في تلك الحياة، عاجز ويحاول الهروب من عجزه بالخروج من المكان نفسه، يلقي بأسباب عجزه على أشياء مصيرية، حلمه في الهرب من المكان، هو اتهام مباشر يلقيه في وجه بيئته، كأنه يرفع عن نفسه كاهل الذنب.
بينما الأم والجدة، عاجزة هي الأخرى، عاجزة عن السيطرة على ابنها، وعاجزة على دفع حفيدها للعمل، عاجزة أن تسير أمور المنزل والعائلة الصغيرة كما ينبغي، ولكنها ترى ان كل ما يحدث أمامها قدريات، أشياء يجب التعامل معها بصبر المؤمن، ولا يخرج من فمها إلا الشكوى او التنهيد المتواصل، هذا منزل العاجزون لا جدال.
ومثل المنزل تجد كل الشخصيات، فصاحب القهوة عاجز عن الوقوف أمام صبحي الفرارجي، والهرم عاجز عن الهرب من سلطة الامن، وأم فاطمة عاجزة عن السيطرة على عائلتها الكبيرة، وام روايح كذلك، نحن في عالم شخوصه عاجزون تماما، وكلهم يهربون من ذلك العجز إما بالتناسي والسكوت أو إلقاء التهم على غيرهم.
فاطمة، هي فقط التي قاومت عجزها في اتجاهه الصحيح، ذهبت إلى من تحب ألمحت وافصحت فنالت وفازت، ربما ليس فوز نهائي يكتب لها سعادة مثالية، ولكن ذلك الحزن والرغبة والمشاعر المكبوتة الساكنة في عينها وصوتها حينما كانت تستجدي " سيدها المغربي" قائلة " إديهولي يا سيدي المغرب" تتحول إلى النقيض تماما حينما تجد نفسها مع يوسف في تلك الغرفة المهجورة، حتى وان استمر مسلسل عجز يوسف.
الباب الثاني.. الصمت
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة كيف يعيش هذا العالم العاجز ويتعايش ويتداخل في علاقات بين افراده؟ الإجابة دائما هي السكوت، الصمت هو الباب الثاني لهذا العالم، الذي يعرف كل شخص فيه كل شيء عن الأخرين، الجميع يعرفون عجز بعضهم البعض، والجميع متفقين على مبدا واحد، نحن نعلم ولكننا لن نقول لبعضنا البعض أننا نعلم، لنمثل جميعا أننا لا نعلم، فمثلا حينما قال الشيخ حسني ما حدث بين صاحب القهوة والفرارجي، وكيف سلط عليه من يضربه بالمطواة ليوافق على البيع، أرتبك الأثنان، ارتبك المطعون والطاعن، بل الطاعن هو من أمر أن يذهب أحد ليسكت هذا الميكروفون.
حتى أم روايح حينما فضحها الشيخ حسني ارتبكت في البداية بينما ابتسمت بعدما ادركت أنه الأن يقول ما يعرفه الجميع، ليس فقط الشيخ حسني من يعلم عن الجميع، الجميع يعلم عن الجميع ويصمتون، حسني يعلم أن روايح تخون سليمان، بينما سيلمان يشعر، يصمت ربما لان المجاهرة بالمعرفة ستكشف عجز الجميع، كمن يختفي وراء ستار، يأخذ شكله وهيئته، وكل ما فعله الشيخ حسني بحديثه، أنه فجأة، مزق هذا الستار، فهو لم يكشف سر غير معروف، فو فقط قاله علانية عن غير قصد، فهو حتى في حالة الكشف هو ليس ذلك البطل الأسطوري الذي واجه الناس بحقيقتها.
المسكوت عنه شمل الجميع، فالريس حسن سكت عن مغازلات الهرم لزوجته وسكت الشيخ حسني عن محاولة ابنه الجنسية، وسكتت أم روايح عن خيانتها لزوجها، وسكت زوجها على الأمر نفسه، وسكتت أم فاطمة عن حال ابنتها، بل سكتت فاطمة عن عجز يوسف واعطته فرصة أخرى، الكل صامتون.
الغريب أن هذا الفيلم الباعث على الحياة بسبب محاولات هروب الشيخ حسني، ينتهي تقريبا من نفس نقطة البداية، كشف الستار، ومزقه الشيخ حسني، ولكن داوود قال أن هذا لن يغير من الأمر شيء فقط ما قيل ستتم إضافته لما هو معروف سلفا و سيعود الجميع للسكوت مرة أخرى، حتى الشيخ حسني بعدما قاد "الموتوسيكل" وسقط في الماء، خرج كأن شيئا لم يكن، حينما يقول له يوسف وهو يضحك " يا أبا انت راجل أعمى أعمى" فيجيب بثقة ضاحكا " اخرس ده أنا اشوف أحسن منك في النور وفي الضلمة كمان" سيظل الشيخ حسني يرفض الاعتراف بعجزه، مثلما سيظل اهل الكيت كات يمثلون انهم لا يعلمون، ويرفضون الاعتراف بعجزهم، حتى بعدما تمزق الستار، في النهاية ستتكاتف الأيدي لتعيده إلى حالته فقط لكي تستمر الحياة.